بقلم: د.ناصر بن عرب
تم أخيرا نشر كتاب بفرنسا عنوانه “أجدادنا العرب” يتناول الكلمات الفرنسية المشتقة من اللغة العربية كتبه الأستاذ جان بروفو المختص في تدوين المعاجم وتاريخ اللغة الفرنسية بجامعة سارجي بونتواز.
في أول صفحة من هذا الكتاب يذكر جان بروفو أن الأستاذ صالح قرميش كتب قاموسا في شأن الكلمات الفرنسية المشتقة من اللغة العربية ويقول أن عددها يعادل ضعف الكلمات الفرنسية المشتقة من اللغة الغولية ( السالتية) القديمة، ولربما ثلاثة مرات أكثر.
كما ينص معجم الدكتورة فاطمة الأخضر أن عدد الكلمات الفرنسية المشتقة من اللغة العربية يبلغ 1262 كلمة.
كانت فرنسا تدعى لاغول منذ ألفي سنة، ولما انهزمت أمام الغزو الروماني سنة 58 ق.م، يؤكد آرناست لافيس (1842-1922م.) الذي انتُخِب عضوا بالأكاديمية الفرنسية وجسد تاريخ فرنسا القومي والجمهوري بامتياز أن الرومان هم الذين ساهموا في أسس الحضارة بلاغول بسبب الإدارة المحكمة لأباطرة الرومان ولا يوجد بلد واحد آخر تابع للامبراطورية الرومانية استفاد من الحضارة الرومانية أكثر من لاغول، إلى درجة أنها فقدت لغتها الشفاهية.
وفي ظرف أربعة قرون انقرضت اللغة الغولية وأصبحت لغة الغزاة الرومان، اللغة اللاتينية الشفاهية هي اللغة المتداولة في لاغول دون أن يبقى إلى اليوم أي سند مخطوط باللغة الغولية.
في نظر آرناست لافيس أيضا كانت الحضارة العربية حضارة نيرة متفوقة على كل الحضارات الغربية التي من حسن حظها تأثرت بمفردات لغوية مشتقة من اللغة العربية لا يتوقع الناطق بها أنها من أصل عربي.
ويعتبر لافيس أن هذا التأثير اللغوي مرتبط بما قدمه عديد العلماء الناطقين باللغة العربية من أعمال وقع نقلها إلى أوروبا عبر الترجمة اللاتينية في الطب والفلسفة والرياضيات والموسيقى وعلم الفلك والفيزياء والكيمياء والصيدلة وعلوم الفلاحة والري والفروسية والبستنة والهندسة المعمارية ومواد الغذاء وفن الطبخ والمائدة والمنسوجات والأقمشة والمجوهرات والعطور والجغرافية…
في شمال إفريقيا والأندلس قام العرب والمسلمون الذين أتوا من المشرق بزرع النبات والأشجار والزهور والتوابل التي أتوا بها.
زرعوا شجر الزيتون وشجر البرقوق والمشمش والخوخ والعنب وشجر الحوامض من نارنج وليم وليمون والخروب والأرز وقصب السكر والسبانخ والأرض شوكي والباذنجان والقرع والبطيخ والكوسى والزعفران والكركم والزنجبيل والكمون والكروية والطرخون وزهر الياسمين والفل ومسك الليل والليلك والآس والنرجس..
وبما أن الطب ارتقى في كل من دمشق بسوريا وبغداد بالعراق والقاهرة بمصر والقيروان بإفريقية وقرطبة وغرناطة بالأندلس وتم تدوينه باللغة العربية ثم ترجم باللغة اللاتينية، شاع صيت ابن سينا(370-428هجري/980-1037م) عبر موسوعته المسماة “القانون في الطب” استمر تدريسه بأوروبا إلى القرن الثامن عشر ميلاديا، وفاز أبو القاسم بن خلف بن العباس الزهراوي بشهرة فائقة في فن الجراحة واختراع ما يقارب من مئتي أدوات جراحية وقد تتلمذ على بحوثه وتجاربه ومناهجه واتبعوها عديد الأطباء مثل روجاي دي بارم، قيوم دي سليساي، هانري دي مونديفيل، قي دي شودياك.ونال كتابه الشهير المسمى “التصريف لمن عجز عن التأليف ” إعجاب جامعة سلارن ومونت بولياي الذي كتبه في القرن الرابع هجريا الموافق القرن العاشر ميلاديا فأصبح مادة هامة تُدَرَّس على الطلبة عبر الترجمة اللاتينية لمدة خمسة قرون.
ولما اكتشف ابن نفيس(607-687هجري/1213-1288م.) الدورة الدموية الصغرى تمت ترجمتها من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية أيضا.
أما محمد بن زكريا أبو بكر الرازي (250-311هجري/864-923 م.) طبيب العرب الأول هو أول من وصف بدقة ووضوح مرض الحصبة والجدري في كتابه المشهور “الحاوي في الطب” الذي ترجم إلى اللاتينية.
وفي شأن علم البصريات قام أبو علي الحسن بن الهيثم (354-430 هجري /965-1040م.) بتفسير عملية الرؤية في “كتاب المناظر ” الذي تُرْجِم إلى اللاتينية وأثبت أن الضوء يأتي من الأجسام إلى العين وليس العكس كما كان يُعْتَقد في تلك الفترة، ويُنْسب إليه اختراع الكاميرا وهو من شرًّح العين تشريحا كاملا ووضح وظائف أعضائها. وقد ترجمت أعماله إلى اللغة اللاتينية.
أما إسحاق بن عمران الطبيب الصيدلي الفيلسوف الذي شاع صيته في القرن الثالث الهجري الموافق القرن التاسع ميلاديا في عهد الأمير إبراهيم الثاني الأغلبي بإفريقية وقد ترجم له قسطنطين الافريقي حوالي سنة 1070م.كتابه المشهور في شأن الماليخوليا. وهو من بادر أيضا في كتابة وصفات التي كان يسلمها إلى المرضى ويتوجه هؤلاء للصيادلة لاقتناء الأدوية الموصوفة. وتم نقلها واستعمالها بعد ذلك في العالم اللاتيني. وفي خصوص علوم النبات والأعشاب والصيدلة والأدوية المفردة برز ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد المالقي المعروف بابن البيطار (593-646هجري/1197-1246م.) وقد ترجمت أعماله إلى اللغة اللاتينية سنة 1758 م. والألمانية عام 1840 م وانتقلت من مصطلحاته العربية العديد من الكلمات إلى اللغة الفرنسية.
وفي الفلسفة اشتهر عبد الوليد محمد ابن أحمد بن رشد بشرح تام الوضوح لما كتبه أرسطو اليوناني في كتاب ما بعد الطبيعة (الميتافيزيقا) والذي يكشف عن النزعة العقلانية التي ترجمها المنهج البرهاني في التفكير والتأليف وتُرجِم شرح أرسطو من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية بحيث كان لهذا العمل وقعا عظيما على أوروبا في الاعتماد على العقلانية في شأن البحث العلمي الذي مهد الطريق لانطلاق النهضة التنويرية بأوروبا وتقدمها.
وفي الرياضيات يعتبر جايروم كردان الإيطالي (1501-1576 ب.م) أن محمد بن موسى الخوارزمي(164-232 هجري/781-747 ب.م )الذي وضع أسس الجبر الحديث عالم عبقري يستحق بدون شك أن يكون في المرتبة التاسعة ضمن الاثنا عشرة علماء الذي تم اختيارهم في العصور القديمة وكان لهم تأثيرا كبيرا في شتى العلوم من أجل براعة عقولهم. ووقع ترجمة الجبر إلى اللاتينية سنة 1135 م لكن الصفر لم يحض استخدامه إلا سنة 1600م.والخوارزمي هو الذي بادر استيعاب الأرقام الهندية ونقلها إلى اللغة العربية ثم استوعبها العالم اللاتيني سنة 975 م بدون الصفر الذي لم ينل حظه إلا سنة 1485م.
لقد نشر جان بروفو كتابا عنوانه “أجدادنا العرب” يروي دور اللغة العربية في تطوير اللغة الفرنسية وإثرائها بمصطلحات لغوية واعترف المؤرخون بما قدم لهم العالم العربي الإسلامي من علوم عديدة طيلة خمسة قرون ساهمت في إرساء النهضة الأوروبية فهذا دليل قاطع يرفع من شأن ماضينا وتاريخنا لأن أجدادنا أضافوا تقدما علميا وكان أساسا لانطلاق الثورة الصناعية الأوروبية.
كما يعترف المؤرخون الفرنسيون أن الاحتلال الروماني الذي حصل في لاغول هو سبب إنشاء الحضارة الفرنسية لأن اللغة الفرنسية انحدرت من اللغة اللاتينية وأصبحت لغة كتابية قائمة الذات.
إن الذي طرأ في لاغول وقع كذلك في بلادنا إذ لما غزا العرب شمال إفريقيا كانت البلاد تحت سيطرة الدولة البيزنطية التي تلت الإمبراطورية الرومانية تلك التي حطمت قرطاج الفينيقية واحتلت ممتلكاتها.
لقد كانت اللغة الفينيقية لغة كتابية إذ أن الفينيقيين هم الذين قاموا بإنشاء الأبجدية.
أما اللغة الأمازيغية فكانت لغة شفاهية لا تُكْتَب. وليس لدينا أي مخطوط أو سند فينيقي أو أمازيغي يروي لنا تاريخا وثائقيا علميا ينير بصيرتنا.
لكننا نجد حضارة نيرة مدونة انطلقت منذ الغزو العربي الإسلامي في بلادنا وما زالت قائمة الذات في بلادنا. وهنا نستطيع مقارنة لاغول ببلادنا. كانت لغة شعب لاغول لغة شفاهية، اللغة السالتية قبل الغزو الروماني ثم انقرضت وشاعت اللغة اللاتينية ثم تكونت اللغة الفرنسية.
وبما أنه ليس لدينا أي مخطوط أو سند لا باللغة الفينيقية ولا باللغة الأمازيغية إلا ما نقله الرومان أو الإغريق حول بعض الملحمات أو الأخبار عن قرطاج وعن البربر، يجوز لنا مقارنة لاغول بعد الغزو الروماني بشمال إفريقيا بعد الغزو العربي الإسلامي.
لقد أرسى الرومان اللغة والحضارة بفرنسا كما كان الفضل عظيما للعرب والمسلمين لأنهم أنشأوا المدارس فأصبح شعب شمال إفريقيا يقرأ ويكتب ويساهم في تقدم الحضارة الإنسانية عبر اللغة العربية.