بقلم – حذامي محجوب
رئيس التحرير
أنفاس حرية، بحرية المنبع والهوى، حملتها معها من قرية القراطن التي ولدت وترعرعت فيها، قرية تعد ابعد نقطة بجزيرة الشرقي لأرخبيل قرقنة التونسية عن ميناء سيدي يوسف الذي يربط الجزيرة بميناء صفاقس، قرية تعيش على خيرات البحر الذي يخترقها ولكن الحياة فيها ليست سهلة، عاشت هذه الفتاة طفولتها وهي ترى أهل قريتها في صراع يومي مع البحر ومواجهة مستمرة مع البشر الذين يقومون بالصيد الجائر والعشوائي عن طريق السفن الكبيرة التي تقضي على الأسماك في المهد، صيد يهدد بتدمير مورد رزق سكان القرية ولا يحترم قواعد البيئة.
نمت فيها روح التحدي والصراع من أجل حياة أفضل، مع المحافظة على بساطة الطبيعة وصفاء السجية.
كانت مولعة بالأدب والشعر منذ صغرها، لكنها اختارت التخصص في الفلسفة لتتعمق فيها لما انتقلت الى المدينة باتجاه الجامعة، عانقت الفلسفة وأبحرت فيها، باعتبارها أجمل قارب تركبه النفس التواقة الى الحرية، انها الأستاذة أم الزين بن شيخة الكاتبة والشاعرة والباحثة بالجامعة التونسية، التي برزت في الفلسفة الغربية الحديثة والجماليات المعاصرة، قدمت منشورات عديدة باللغتين العربية والفرنسية ضمن مجلات تونسية وعربية وعلى مواقع متعددة.
تحصلت على جائزة زبيدة بشير للكتابات النسائية التونسية لسنة 2010.
أم الزين بن شيخة هي باحثة في مخبر التنوير والحداثة بالجامعة التونسية وهي منتجة برنامج “نزهة المشتاق” بإذاعة تونس الثقافية وكذلك رئيسة سلسلة “صوفيا” (في الدراسات الفلسفية) وسلسلة “رسائل فلسفية” (التي تنشر الأطروحات الجامعية) ضمن الدار التونسية للكتاب وهي كذلك عضو باتحاد الكتاب التونسيين. كذاك عضو الهيئة العلمية لمجلة حوارات فكرية التابعة لاتحاد الكتاب التونسيين.
بالرغم من كل هذه الأنشطة الأكاديمية، تعدّ أم الزين بن شيخة من بين قلة من الأكاديميين التي قامت بمنعرج روائي فريد يبدو في ظاهره بعيدا عن الفلسفة، لكنّه في باطنه صادر عن إيمانها الراسخ بان الفلسفة لم تعد ممكنة اليوم الا انطلاقا من أحد الحقول التخييلية.
إنها امرأة ارتأت ان تجرب بعض الثنايا معا، تحاول أن تفكر شعرا وتكتب الرواية فلسفة.
كل ما تكتبه يدخل تحت راية الفلسفة، إنها تسير على خطى نيتشة، كذلك امبرتو ايكو…
الرواية بالنسبة لها مجرد حقل تجريب لإمكانية أخرى للتفلسف نثرا وشعرا وتخييلا، إنها تؤمن أنّ ثقافتنا تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى مساحة أوسع للحلم في زمان ضاق فيه الواقع وهو ما توفّره لها الكتابة الإبداعيّة، إنها توسع وتثري قدرة الثقافة على الحلم والحكي والنثر: نثر الأوجاع ونسج الآلام، بالضبط كما تنسج بنلوب ليلها كي تواصل انتظار حبيبها يوما آخر. في هذا السياق كتبت أم الزين بن شيخة عمّا حدث تحت راية الثورات العربية في ضرب من التخييل العجائبي لما عاشته مدننا من خيبات أمل ومن أماني مغدورة وأحلام موؤدة.
فكانت رواية “جرحى السماء” ( 2012) تعرض الوطن العربي في شكل جرحى سقطت عليهم سماؤهم فلم يحسنوا التقاطها فظلّوا يتأرجحون بين الحياة والموت، فظهروا على سطح الرواية في شكل أشباح لا هم بالأحياء كي يموتوا في أوانهم ولا هم بالأموات كي نرثيهم بما يكفي. ثم عقبتها رواية ” لن تُجنّ وحيدا هذا اليوم ” (2014)،رواية تواصل بنفس الشخصيات وبقصص مختلفة وبعوالم مبعثرة ومشوّهة.
“لن تُجنّ وحيدا هذا اليوم” هي رواية الجراحات والآلام، جاءت كي تنثر أوجاع شعب نضجت بما يكفي لجنون عموميّ من أجل نسيان الجروح والشروخ التي عبرت بجلودهم في شكل طوابير. وهكذا تتناثر “المسوخ الضاحكة” على صدر الورق الهشّ من أجل عوالم أخرى لا يتقن فيها سكّانها غير الضحك. هو ضحك من أنفسنا وضحك ممّا ليس من أنفسنا..ضحك من أوجاعنا ومن حكوماتنا ومن ثوراتنا الكاذبة..لا شيء غير حوار للصمّ جاء كي يحرس الفراغ…ورواية ثالثة بعد السابقتين تحت عنوان طريف ” طوفان من الحلوى في معبد الجماجم” وهي رواية من جنس الرواية المضادة وهو مفهوم كان قد وضعه جون بول سارتر سنة 1948 في تقديمه لكتاب “لوحة لغريب “، لناتالي ساروت، وهو يعني أن تتناول الرواية حدثا حقيقيا وأن تتخيل له نهاية أخرى غير تلك التي حدثت بالفعل.تعود أم الزين بن شيخة في هذه الرواية إلى قصة الشهيدين مبروك وخليفة السلطاني اللذان ذبحا على يد الارهابيين في جبال المغيلة، حادثة هزت الرأي العام في تونس، غير أن روايتها تتخيل مسارا آخر للأحداث.
فلسفة أم الزين بن شيخة تكمن جدتها في محاولة العثور على تصور ثقافي مناسب لما يحدث لنا وتعتبر ان ذلك يتطلب منا القدرة على تشخيص واضح لبيت العنكبوت الذي هو بصدد نسخ حياتنا ومستقبلنا وعقولنا ومشاعرنا وعقائدنا معا.
أم الزين بن شيخة لا تؤمن بالحلول السحرية وإنما تؤمن بوجود إمكانيات لتحرير الحياة حيثما يقع اعتقالها.
الفلسفة تمنحنا إمكانيات لاختراع الحياة لأنها في أصلها حمالة لرسائل الحب في زمن لم يبق فيه سوى الحب كطوق نجاة نحو التحرر.
تذكرنا أم الزين بن شيخة في كل رواياتها بان صناعة الامل لا تموت لأنها تحلق دوما في سماء جديدة..إنها تؤمن بان الفن هو القادر على مقاومة ما يحدث في أوطاننا من الدمار والخوف.
أم الزين بن شيخة هي الصدى العميق لصوت الفرح في مجتمعاتنا وصوت الجمال في صلب سياسات الفشل.
انها تعيش هاجس الخوف على وطنها كما يعيش بحارة قريتها حالة الخوف الدائم من فقدان ثروتهم السمكية لكنها كأهل قريتها تعودت المقاومة بالطبلة وبالمزمار على طريقتها…
إنها تدق في رواياتها طبول الألم والأمل معا.
إنها المرأة التونسية المناضلة التي كلما سقط عالم السياسة إلا وابتكرت عوالم أخرى بالقصيدة والرواية.
إنها تبني ضد سياسات التقهقر والفشل كل يوم بالكلمة الحرة حدائق الحياة المشتركة التي تقيم احتفالاتها وزغاريدها حتى وهي تشيع شهداءها إلى مثواهم الأخير..
ام الزين بن شيخة صوت ثقافي مقاوم، تقاوم الرداءة والغباء الجمعي وارتخاء الأفكار والأجساد وضياع البوصلة في هذه السنوات الأخيرة.