بقلم – حذامي محجوب رئيس التحرير
تنضاف إلى عجائب الدنيا السبع الانتخابات التشريعية التونسية التي وقعت في تونس 17 ديسمبر 2022 تحت حكم قيس سعيد استاذ القانون الدستوري لان عشرة مرشحين قد تحصلوا على مقاعد في البرلمان الجديد قبل إجراء الانتخابات، لأنهم المرشحون الوحيدون في دوائرهم، واقعة غير مسبوقة، من المفارقات كذلك أن مجلس النواب الجديد لن ينعقد لأداء اليمين إلا في شهر مارس المقبل، لأن هيئة الانتخابات الموقّرة مدعوة لتنظيم انتخابات جزئية لسدَ هذه الشغورات.
انتخابات بدت مسقطة من كوكب آخر، او على قياس كائنات لا علاقة لها بالشعب التونسي، لا بواقعه ولا بتاريخه، ففي حديثنا مع العديد من فئات المجتمع التونسي تبين لنا قبل اشهر ان هذه الانتخابات الباهتة لا تعنيهم، وانهم لا يصغون حتى إلى ما يقوله رئيس الجمهورية، ولا إلى ما يحثهم عليه من كراهية ونقمة على بعضهم البعض، ادركوا انه لا يملك سوى سردية الشعارات التي لا تغنيهم من جوع ولا تطمئنهم على مستقبل ابنائهم، انه رئيس بعيد كلّ البعد عن مشاغلهم، الانتخابات تعنيه وحده ولا تعنيهم، المواطن العادي تعوقه صعوباته المعيشية اليومية عن ترف الخوض في المسائل الدستورية التي تبين بانها الشغل الشاغل الوحيد للرئيس الذي لم ينزع جبة استاذ القانون الدستوري ولم يلبس بعد قبعة الرئيس.
اما النخبة فقد فهمت منذ مدة ان شؤون البلاد اصبحت خارج الشرعية والمشروعية وخارج منطق القانون، وان كامل البلاد اصبحت تحت حكم فرد واحد أحد يفعل بها ما يشاء بمقتضى المراسيم.انقلب حلم الديمقراطية إلى كابوس يهدد حياة التونسيين بالمجاعة والموت.
صرت شخصيا استحي من التعليق على السياسة، لانه لم تعد لدينا سياسة منذ 25 جويلية بل هي مهزلة، مسخرة، مسرحية هجينة.
تنكر من يحكم لاستمرارية الدولة، لاتفاقيات تونس الدولية، عزل تونس عن شركائها ودفع لها في حالة تخبط كبير.
بلادنا أصبحت موضوع تندر في المحافل الدولية والمنتظمات الأممية، صرت شخصيا أخجل من التعليق على العبث وعن تحليل التفاهة. لم يول التونسيون أي اهتمام بالعملية الانتخابية سوى بعض من الذين يعرضون خدماتهم على كل نظام والذين أصبحوا محل رفض لدى التونسيين.
كانت الحياة عادية تماما في المدن التونسية خلال الأيام المخصصة للحملة الانتخابية.
كان كل من يتجول في شوارع تونس يشعر بهدوء يسبق العاصفة، وبأن البلاد لا يمكن ان تستمر على هذا النسق، اذ لا يعقل ان تتدهور حالة التونسيين وان ينحدر مستوى عيشهم إلى أسفل الدرك بعد 60 سنة من الاستقلال وقيام الدولة الوطنية الحديثة. كانت كل المؤشرات تدل على أن البرلمان الجديد سيكون برلمان قيس سعيد، وان قيس سعيد هو الذي قرر هذه الانتخابات بمفرده دون أن يطالب بها أحدٌ، بل لم تفرزها حتى نتائج الاستفتاء الذي قرره قيس سعيد ولم يلتزم حتى بنتائجه، بل طوع الرئيس نتائج الاستشارة لتنسجم مع طموحاته غير مكترث بمطالب الشعب الذي ما فتئ يقول بانه يتكلم باسمه.
هيّأ الرئيس لهذه الانتخابات كل الأجهزة الضرورية التي تأتمر بأوامره وبدستور خطَّه بنفسه على مقاسه ضاربا عرض الحائط كل قواعد الديمقراطية وحتى حيل الديكتاتورية “الذكية “،فرض مسارا احاديا فصّل له قانونا انتخابيا يُساعد أنصاره فقط على الفوز بمقاعد في البرلمان الجديد، وذلك بالاقتراع على الافراد، فلا سبيل لأي ائتلاف حزبي منافس، ولا قائمات موحدة حتى ان معظم هيئات المراقبة قاطعت الانتخابات، ومنها جمعية “بوصلة “التي كانت حاضرة وفاعلة في كل المحطات الانتخابية السابقة.ورفض البرلمان الاوروبي بعث مراقبين لانتخابات تفتقد للمعايير الدولية، اما الهيئة “المستقلة للانتخابات” التي سبق أن أشرفت على خمس انتخابات رئاسية وتشريعية سابقة بين سنتي 2011 و2019، فقد ضرب قيس سعيد استقلاليتها وجعلها رافدا لسلطته السياسية بتعيينه لأعضائها،كما استحوذت هذه “الهيئة المستقلة” على صلاحيات هيئة الاعلام السمعي والبصري التي من المفروض ان تراقب تعامل وسائل الاعلام، كما ازعجت هذه الهيئة التونسيين بتواتر الارساليات القصيرة وهرسلتهم على امتداد الليل والنهار بطريقة مهينة، كما اطنب اعضاؤها في الظهور في وسائل الاعلام مدافعين عن مشروع الرئيس ضاربين بكل مظاهر استقلالية الهيئة فبدا بالكاشف للتونسيين ان انتخابات الرئيس منتهية قبل ان تبدأ.
فرض قيس سعيد على التونسيين انتخابات لا تعنيهم، فتجاوزت نسبة العزوف في الانتخابات. نسبة 90% يوم 17 ديسمبر 2022، وكانت نسبة المشاركة %8.8 هي نسبة مخجلة، اقل نسبة مشاركة انتخابية في العالم أخر 20 سنة الماضية اقل من نسبة المشاركة في هايتي سنة 2015 ونسبة المشاركة في أفغانستان في 2019. رئيس احتكر جميع السلطات بين يديه، هو رئيس السلطة التنفيذية، وهو رئيس السلطة التشريعية باعتباره المُشرع الأوحد بواسطة المراسيم، أهان القضاء وحل المجلس الأعلى للقضاء وأعاد تشكيله، لإحكام قبضته على المؤسسة القضائية.
لكن في المقابل لا يسمح الدستور الذي وضعه وفرضه على التونسيين بمراقبة أداء الرئيس أو محاسبته، فقد منح نفسه حصانة مطلقة مدى الحياة، أي حتى بعد انتهاء عهدته، وهي حصانة لم يتمتع بها أي رئيس من الرؤساء السابقين. وقد اسس بذلك لحكم فردي استبدادي يقوم على رؤية تعود إلى القرون الوسطى، يضع الحاكم فيها نفسه وصيا على عقول.
عين رئيسة حكومة صورية بدون صلاحيات لا حول ولا قوة لها، لا قرار لها. سعى إلى ابعاد كل ما يمكن ان يحول دون حكمه المطلق من نقابات ومنظمات وأحزاب، احتكر كل السلطات ولكن الواضح انه لم يتوقع ردة فعل الشعب ولم يقدر ذكاءه كامل المسار. لقد برهن العزوف الشاهق عن الانتخابات، العزوف المنقطع النظير فعلا، ان يوم 17 ديسمبر 2022 كان فعلا يوما تاريخيا برهن على ان التونسيين قد يصمتون وقد يصبرون ولكن لا يمكن ان يكونوا لمن رذلهم أنصار.
لقد قالوا اليوم للرئيس قيس سعيد الذي سبق ان اعطوه ثقة كبيرة في رئاسية 2019 وكذلك في 25 جويلية 2021 ” الشعب لم يعد يريدك”.