اسماعيل مهنانة
تحتفل إيران هذا الأسبوع بالذكرى الأربعينية لانتصار الثورة الإسلامية في فيفري 1979. وهي الثورة التي أسالت حبرا كثيرا بين المنظّرين والمفكّرين والملاحظين السياسيين في كل أنحاء العالم، بوصفها أول ثورة ببطانة إيديولوجية دينية، جاءت في عصر ظنّ فيه فلاسفة الغرب ومفكّروه أن الإيديولوجيا الدّينية لم تعد تحشد الجماهير نحو الثورة.
كما أنّ الخوف الغربي، الحليف للشّاه الإيراني، من أن تتحول الإيديولوجيا الدّينية إلى منافس عالمي جديد، جعل تلك الثورة محطّ الاهتمام السياسي والاستشراقي. حتّى أن فيلسوفا هادما لكلّ الايديولوجيات مثل ميشيل فوكو (1926- 1984) سافر حينها إلى طهران لتوثيق الحدث الكبير مباشرة، وانتهى به المطاف إلى تمجيد ثورة الخميني والكتابة عن ظهور “روحانية سياسية” بديلة عن السردية السياسية الغربية، وهي العبارة التي جلبت عليه الكثير من النقد والخصومات. إذ كيف لفيلسوف قضى حياته في الدفاع عن الحرّيات الفردية أن يتحمّس لثورة كانت منذ البدء علامات الأصولية الدينية والشمولية تلوحُ في أفقها؟ في نهاية 1978 شارك فوكو في المظاهرات التي هزّت شوارع طهران، إلى جانب الملايين من الشباب، وكان يرسل تغطياته للحدث إلى صحفية “لوكريي دي لا سيرا” الإيطالية.
وفي تلك المقالات، طرح سؤالا مركزيّا: كيف لشعب أعزل أن يواجه الآلة البوليسية للشّاه رضا فهلوي، المدججة بكل أنواع الأسلحة والمدعومة من القوى الغربية؟ ثمّ اهتدى إلى أن السرّ في ذلك هو نفسه تلك “الروحانية السياسية” المستمدّة من الدّين الشّيعي، والتراث الرّوحي الإيراني الضّارب في أعماق التّاريخ. كان فوكو يرى أنه يجب تشجيع تلك الرّوحانية كمحتوى إيديولوجي يؤدّي نفس الوظيفة الثورية التي تؤدّيها الأفكار التقدّمية واليسارية في الغرب.
ويعرّف فوكو الروحانية السياسية بأنها ذلك القلق الذي يدفع الفرد في لحظة ما إلى الانعتاق من أغلال الانتماء إلى هوية أو نظام سياسي ويندمج في فردية جديدة. يقول فوكو أنّها موجودة في معظم الثقافات العالمية الكبرى، تماما كما قامت الكنيسة الكاثوليكية جبروت النظام الستاليني بتلك الروحانية، وكما نجدها في حركات الدفاع عن البيئة ضد النظام الصناعي العالمي، أو كما تجسّدت عمليا في شخصية الماهتما غاندي. أي الإيديولوجيا لا يجب الحكم عليها من خلال مضمونها المعرفي فيما إذا كان مضمونا علميّا ومنطقيا، وإنما يجدر بنا الحكم عليه بما تؤدّيه من وظيفة ثورية أو رجعية. وهي فكرة كان قد أشار إليها قبله الفيلسوف الماركسي “لوي ألتوسير” في إعادة قراءته لماركس. كان معظم المحلّلين الغربيين يفسّرون الانفجار المفاجئ للثورة الإيرانية بوصفها ردّ فعل لمجتمع إقطاعي ضد حركة “التحديث السّريع” التي كان الشّاه يجريها على المجتمع الإيراني.
لكن فوكو نفى وجود أي تحديث حقيقي في إيران الشّاه، واصفا إيّاه بحداثة الواجهة التي سوّقها النظام لعرّابيه الغربيين. وحتى مزاعم العلمانية التي كان الشّاه يروّجها لم تكن تملك أي مقابل موضوعي في مجتمع متديّن حتى النخاع.
لهذا خلُص فوكو أن تلك الطريقة الاستفزازية في القضاء المباشر على الرمزيات الدينية دون مقابل واقعي في الحياة اليومية للنّاس هي التي تدفعهم نحو المزيد من التطرّف وهي مصدر الأصولية الدينية التي يشاهدونها داخل صفوف الثورة الإيرانية. بعد انتصار الثورة الإسلامية راهن خبراء الغرب كلّهم تقريبا على سقوطها بعد سنوات قليلة من ممارستها للسّلطة بثورة شعبية مضادة.
لكن فوكو لاحظ شيئا آخر أبعد. فرغم أن السنوات قد أثبتت فعلا تحوّل تلك الثورة إلى نظام قمعي وأصولية دينية تقتل كل الحريّات، لكنها أثبتت أيضا رؤية فوكو في إمكانية بقاء الثورة الإيرانية لسنوات طويلة، قال إنها قد تصل إلى قرن من الزّمن. لقد كانت الحرب العراقية ضدّ إيران أفضل هدية قدّمها الغرب لتلك الثورة حين التفّ كل الإيرانيين حول الدّولة الجديدة في حرب عشواء ومجّانية خلّفت الملايين من القتلى.
في بقية العالم الإسلامي السنّي تحوّلت الثورة الشّيعية إلى نموذج مثالي يلهب خيال الجماهير المتديّنة والحانقة، خاصّة وأنها ثورة قام بها مسلمون يعتبرهم السنّة (مسلمين من الدرجة الثانية). لكن مرارة الإحباط كانت أكثر فشلت معظم النّسخ السنّية المقلّدة في استنساخ تلك الثورة دون الانزلاق في حمامات الدمّ، وبالتالي إعطاء المزيد من التبرير للأنظمة العسكرية. ربّما ينقص الإسلام السياسي السنّي تلك “الروحانية السياسية” التي تحدّث عنها ميشيل فوكو.