الأوطان وحدها هي التي تبقى…

بقلم – حذامي محجوب :

رئيس التحرير

 في وطني يتصارع من لا يستحق حول من يحكم، ويموت من يستحق لأنه كان بالوطن يحلم.

10 سنوات أضعناها في معارك ” ميتافيزيقية” :

حركة النهضة تريد خلخلة النسيج المجتمعي التونسي بعنوان “اسلمة “مجتمع مسلم ومعارك عرقية، تونس عربية ام متوسطية، سقطت من القارة الأوربية إلى جنوبها؟ وحين وقعت في شمال افريقيا المعربة رجعت اليها النعرات المذهبية والمعارك الطائفية؟ فضلا عن المعارك الأيديولوجية بين اليمين واليسار (بين الدساترة الذين لقبوا ب” الأزلام” والثورجيين الجدد )، اختلط الحابل بالنابل ( تحالفات مخالفة للطبيعية بين اليسار والإسلاميين. وبين من بقي يحنّ إلى النظام السابق مع من له حنين العودة بنا إلى دولة الخلافة الاولى، حركة النهضة )، الكل تقريبا الا من رحم ربك يطلب ود حركة تمدّدت وتغوَلت في حكم تونس.

تحولت المعارك إلى معارك بين “الطهوريين” الذين لم تدنسهم المناصب والسلطة، وبين “الفاسدين” المارقين وان شئتم حشرات، حتى ان كلمة فساد أصبحت متداولة إلى درجة أننا في بعض الأحيان نتساءل من هو الذي لم يفسد؟

 اذا كان الكل يتهم الكلّ بالفساد؟ هل ان الفاسد هو من خدم نظام ما قبل 2011؟ ام ان الفاسد هو من اغرق البلاد في المديونية وأقحمها في أحلاف إقليمية وفي أجندات خارجية ؟

 هل ان الفاسد هو من أضاع الفرصة على تونس؟ ام ان الفاسد هو من جمع الثروات على غير وجه حق على حساب الشعب؟

 يبدو ان تهمة الفساد قد فقدت معناها القانوني الدقيق. ولم تعد من مجال القضاء كما هو الامر في كل البلدان التي تحتكم إلى القانون والمؤسسات.

 أصبحت تهمة الفساد “كعب أخيل” يضرب بها الخصم السياسي كل خصومه باسم المنقذ من الفساد.

إنها حرب الجميع ضد الجميع، بل قل هي الغوغاء بأتم معنى الكلمة، باعتبار ان كل هذه النقاشات حول مضامين ولت وانقضت قد تنامت ووقع استعمالها لمصادرة الحوار الحقيقي حول المسائل الأساسية التي تشغل الشعوب بصفة عامة والشعب التونسي بصفه خاصة.

لقد مررنا خلال 10 سنوات من ثنائية استقطابية إلى ثنائية أخرى (2011من الإسلاميين ” المظلومين” الذين يثأرون من “جلادهم “)، 2014 (من الذين خانوا الأمانة وباعوا البلاد إلى الطّهر والمخلصين الجدد )،” خليط من اليمين واليسار ومن الانتهازيين الذين لم تكن لهم من رغبة سوى الانقضاض على السلطة وقد اهترأت “، 2019 (” العذارى” من السياسة والاقتصاد، ضد كل من هب ودب ).

لكن اليوم وقد وصل الأشراف و” الطهوريون” إلى الحكم، ماذا عساهم فاعلين ؟

إنهم يمرون بسرعة فائقة إلى ثنائية جديدة (الصادقون في مقابل الخونة والعملاء)، صحيح ان كل مجتمع فيه خونة وعملاء، وأناس يرتبطون بالأجنبي ويخدمون مصالحه ويبيعون ضمائرهم على حساب مصلحة أوطانهم، الم نلاحظ خلال 10 سنوات هذا الانحياز إلى المحاور والى الغزاة الجدد، كل سعى من جهته إلى جذب البلاد إلى القاع بعمالته، كل بات يقدم عبارات الولاء والوفاء إلى سيد او جهة ما وفي بعض الأحيان إلى دولة وحتى إلى شخص بعينه.

كل هذا عادي ونجده في كل البلدان وخاصة منها تلك التي لا تقدم بديلا قويا لمواطنيها؟

كل هذا نشهده في البلدان التي لا يشعر فيها المواطنون بالأمان وبالثقة، فيبحثون عن حليف، أقول هذا لا على سبيل التبرير وانما على سبيل الملاحظة.

اليوم، وقد تمكّن” الطهوريون” من الحكم، هل هم قادرون ان يقدموا شيئا إلى هذا الشعب غير التفرقة بين التونسيين والتونسيات؟ وبين الجهات والفئات؟ الن يتوقفوا عن بث الحقد والكراهية والنقمة؟ الن يبتعدوا عن عبارات التهديد والوعيد؟ الن ينصرفوا إلى العمل عوض السب والشتم من وراء شاشات حواسيبهم لكل من خالفهم الراي؟ متى يدركون ما أدركه عنترة بن شداد ” لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب، ولا ينال العلا من طبعه الغضب “.

ان مسالة السيادة الوطنية هي أعمق من ان يخرج بعض العملاء عن الوطنية لينعقوا خارج البلاد سعيا لكسب تعاطف بعض وسائل الإعلام والتأثير على الرأي العام الدولي.

ان مسالة السيادة الوطنية في علاقة عضوية بمكانة دولتنا في العالم، فنحن نعيش اليوم عصر العولمة التي تهيمن على كل العلاقات الدولية، وبالتالي لا وجود لدولة واحدة في العالم تملك السيادة المطلقة على قرارها الوطني لان كل دول العالم مرتبطة فيما بينها بمعاهدات ومواثيق تحد من قرارها.

 صحيح ان الدول القوية التي تتحكم في اقتصاد العالم تتصدر المرتبة الأولى في نسبة قرارها السيادي كالولايات المتحدة والصين بدرجة أولى وروسيا بدرجة ثانية وكوريا الجنوبية التي اختارت ان تعيش في عزلة تامة. لكن السيادة هي موازين قوى قبل ان تكون إرادة سياسية والسيادة الفعلية مرتبطة بالعوامل الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والعسكرية والثقافية، وهي متحولة ومتغيرة لان العالم في حركة متواصلة تتشابك فيه المصالح وتتغير فيه موازين القوى.

 فحين صعد دونلد ترامب إلى الحكم سنة 2017 سارع إلى سحب بلاده من العديد الاتفاقيات وعضوية مؤسسات امنية دولية، رافعا شعار : ” أمريكا أولا..” ولكن نلاحظ اليوم ان الإدارة الامريكية نفسها وبقيادة جو بايدن قد اعادت بعض الاتفاقيات وهي بصدد مراجعة أخرى، فهل يعني ذلك ان أمريكا هي بصدد التفريط في سيادتها ؟.

 ان السيادة الحقيقية ليست خطابا هجوميا على الآخر، على دول العالم ولا على المؤسسات السيادية او الاقتصادية بل السيادة الفعلية هي في قوة التفاوض التي هي من سمات السياسي المحنك القادر على الإقلاع ببلاده علميا واقتصاديا وماليا.

كل بلدان العالم اليوم تعيش عصر العولمة، كل المجتمعات تجاوزت مرحلة الدولة القومية باقتصادها وبإعلامها وبثقافتها نحو ارتباط كوكبي تندرج فيه ضمن حركة واحدة ماليا واعلاميا واتصاليا ومعلوماتيا خارج الحدود الاقتصادية والسياسية والثقافية.

 نحن نعيش في فضاء لا حدود له، لحركة التجارة ولانتقال الأموال والمنتجات وسماء بلا حدود للاقمار الصناعية وللقنوات التلفزية ووسائل الاتصال والتواصل وشبكة المعلومات. لذلك فان العولمة لا ترحم الضعيف بل لا يمكن ان يستفيد منها الا الذي ينخرط فيها ويتمكَن من وسائلها.

 الشعوب لا تنهض بالأحقاد ولا بالخطابات المتشنجة، بل تنهض حين تلتف حول حلم قادم، حول مشروع وطني واحد يقوم على ترسيخ قيمة العمل وعلى ضرورة خلق الثروة، لدينا في تونس كفاءات عديدة عملت في الداخل وأثبتت جدارتها فلم تهميشها؟ لماذا لا تقع الاستفادة من كفاءتها ؟ لدينا كفاءات وطنية تعمل في مراكز بحث وتوجد في مراكز قرار اقتصادية دولية، من حاول من السياسيين الاستفادة منها لصالح البلاد؟ من حاول ربط علاقات وشراكات وثيقة عن طريقها؟

 ما هو برنامج الدبلوماسية التونسية اليوم؟ ماهي خطتها الاقتصادية؟ هل قدرنا ان نبقى في سجالات عقيمة وفارغة؟.

حين تحصلت تونس على جائزة نوبل للسلام لم يقع استثمار هذا الحدث الجلل، بل وقع تهميشه لصالح حسابات انتخابية ضيقة، في حين ان من حصل عليه هي منظمات وطنية عريقة لها امتداد عميق في تاريخ تونس. متى سيدرك الحكام الجدد ان شؤون البلدان لا تدار بالانفعالات بل برؤى، وباستراتيجيات يقع فيها تشريك كل الطاقات الوطنية دون تمييز ودون فرز، اقصد بذلك الطاقات العلمية والاقتصادية والتكنولوجية والثقافية.

البلدان لا تبنى على سياسة الأرض المحروقة، طريق السيادة الفعلية يتطلب التخطيط الاستراتيجي والارتقاء بكل منظوماتنا العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والتعليمية والثقافية.

 لا طريق غيره، اما إذا اتبعنا أوهام الشعبوية فسنضيع على تونس فرصة انجاز وحدث 25 جويلية ونسقط إلى قاع القاع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ولا اعتقد اننا يمكن حينها ان نتحدث ولو على سبيل المجاز عن سيادة وطنية ولا عن علاقات دولية.. ولا عن مستقبل افضل لهذا البلد.

 بين أول رصاصة، وآخر رصاصة، تغيرت الصدور، وتغيرت الأهداف، وتغير الوطن.

 إن لم يكن بنا كريماً آمناً ولم يكن محترماً ولم يكن حراً فلا عشنا.. ولا عاش الوطن…. نحن الوطن.