بقلم – محي الدين عميمور
أن يكون هناك من يكرهون الجزائر لسبب أو لآخر أمر لا يستوجب الغضب والاحتجاج ولا حتى اللوم والعتاب، فلكلٍّ أسبابه ومبرراته، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمعطيات تاريخية متناقضة تدخل فيها اعتبارات إقليمية وذاتية يعتبر تجاهل دورها نوعا من قصر النظر السياسي.
ولقد تناولت في الحديث الماضي باختصار شديد خرافة “الأمة في دور التكوين” التي تغرغر بها الرئيس الفرنسي أمام مجموعة من أبناء “الحركى”، بدا له، بمراهقة تاريخية سمجة، أن يداعب غرورهم ويستنفر تناقضهم مع البلد الذي خانه أولياء أمورهم، وبغض النظر عما إذا كانت الخيانة عن حاجة إنسانية أو حقد اجتماعي أو ارتزاق سياسي أو ثأر عائلي.
ويقول لي من أثق في كلامه إن الجالية الجزائرية، بكل مكوناتها (أقول…بكل مكوناتها، بما فيها تلك المتناقضة مع السلطات الجزائرية) تبرعت لدعم صراع الجزائر ضد “كوفيد-19” بكثافة أدهشت الفرنسيين، بل وأثارت قلقهم، كما أثاره يوما دعم الجالية لفريق الكرة الجزائري في مباراة ضد فريق فرنسي، إلى درجة أن عشرات كانوا يحركون شفاههم بالنشيد الجزائري تظاهرا بأنهم يحفظون كلماته.
وكنت أوضحت الخلفية الحقيقية التي تقف وراء خرافة “الأمة في طور التكوين”، موضحا أن الهدف هو أن تترسخ في أذهان الجيل الجديد فكرة الدولة الفرنسية “التاريخية”، كما قال يوما جيسكارد ديستان، مقابل الأمة الجزائرية “اللقيطة”، بما يجعلهم يوما حصان طروادة بالنسبة للنفوذ الفرنسي.
والفكرة ليست جديدة، فالتوجه النصراني – العبري يسهر على زرعها وتنميتها منذ هزيمة “شارلكان” في خليج الجزائر عام 1541، وخصوصا منذ حرب الـ 300 سنة ضد غزاة الشمال، وبصورة أكثر حدة منذ تحطّم الأسطول الجزائري والمصري في موقعة “نوارين البحرية” عام 1827، وبأسلوب أكثر خبثا منذ الاستقبال الجزائري الهائل لجمال عبد الناصر في مايو 1963 والتفاعل الشعبي الكبير دعما للوطن العربي في صراعه مع الوجود الصهيوني.
ولا أدل على ذلك من أن “كهنة” التوجهات الفرانكوفيلية عندنا لم ينبسوا بحرف واحد يعبر عن انزعاجهم من المراهقة التاريخية التي انزلق إليها الرئيس الفرنسي، فلم يجد بالتالي من يتجاوب مع لغوه إلا الذباب الإلكتروني، مما أضطره الآن إلى محاولة التبرؤ من الأفكار التي استوحاها من مؤرِّخِه، صاحب نظرية “الريع” التاريخي أو الثوري، التي استوحاها في تقريره من تعبير “الريع” البترولي.
وأتصور أن من أخطائنا أننا ركزنا نظرتنا التاريخية، والتي كانت، للأمانة، نظرة محدودة وجزئية، على الحركة الوطنية والثورة المسلحة، ولم نتوقف كثيرا عند الفترات التاريخية التي سبقت ذلك وإلى عمق يتجاوز ما قبل الميلاد، وهو ما تؤكده رسوم “التاسيلي”، التي قال عنها “أنيس منصور” يوما إنها من إنجاز كائنات فضائية في زمن ما.
وهكذا كان من حق بعضهم أن يجادلوا بأن الجزائر لم تكن دولة واحدة موحدة، برغم أن ذلك في حد ذاته ليس تهمة يُفترض أن نتبرأ منها، فأعرق الدول في المتوسط، وهي مصر، لم تكن دولة واحدة إلى أن جمع الملك “مينا” بين قطريها، ولا حديث عن ألمانيا قبل “بسمارك” وإيطاليا قبل “غاريبالدي” وفرنسا “شارلمان” وأخيه “شارلكان” وبريطانيا إليزابيث الأولى وماري ستيوارت، ولا حديث عن بلاد عرفت حضارة المايا والأنكا.
وكان المضحك في تصريحات السيد “ماكرون” قوله بضرورة كتابة التاريخ الجزائري “الصحيح” من جديد باللغتين العربية والأمازيغية، لأن النظام الجزائري، حسب قوله، هو من يُشجع العداء ضد فرنسا (وليته كان كذلك) وهو تكرار بصورة جديدة لما قاله الاشتراكي المُرتد في عهد “ساركوزي”، “برنارد كوشنر”، من أنه “لا وئام مع الجزائر إلا عندما ينقرض جيل نوفمبر” (جيل الثورة المسلحة)
وربما كان من حقي أن أذكّر هنا، مرة أخرى، بقصة استعمال كلمة “الأمازيغية”.
كانت الكلمة المستعملة منذ عقودٍ هي كلمة “البربرية”، التي كان الرئيس الراحل “الشاذلي بن جديد”، ونحن معه، يرى أنها كلمة قدحية تعني العُجمة في اللسان والهمجية في الأعمال، ومن هنا كلفني ببحث الأمر.
كان ذلك إثر أحداث ما أطلق عليه “الربيع البربري” في 1980 (ولم يكن يومها يُسمى الأمازيغي) والذي اعتبره كثيرون ردّا على التوجهات العروبية للرئيس، والتي كان منها حرصه على أن تكون زيارته الرسمية الأولى هي للوطن العربي، بجانب قرارات تعريب شرائح هامة في الجامعة الجزائرية.
وكلفني الرئيس ببحث الأمر، ولأنه عاش من عرف قدره، حيث أنني لست مؤرخا، فقد قمت بتكوين مجموعة عمل ضمت المؤرخين عبد المجيد مزيان وموسى لقبال، رحمهما الله، وعثمان سعدي، وتهرب آخرون لا أرى ضرورة لذكر أسمائهم لأنهم في رحمة الله.
كانت منطقة الشمال الإفريقي تسمى “لوبيا”، ومن هنا كان الاقتراح الأول هو أن تستعمل كلمة “اللوبية”، غير أن هذا كان موضع اعتراض لأن هناك دولة اسمها “ليبيا”، ولم نكن في حاجة لجدال جديد كالذي حدث بين اليونان ومقدونيا حول التسمية.
وطُرح استعمال كلمة “النوميدية” بحكم التاريخ النوميدي العريق الذي تميز بالصراع مع قرطاجنة ثم روما، وتألق فيه صيفاكس ويوغورطة قبل الميلاد وتاكفاريناس بعد الميلاد، وكانت عاصمتها “قرطة” أو “سيرتا” (قسطينة الحالية) ولكن رُئيَ أن ذلك سيستبعد مناطق “الهقار” والجنوب الجزائري، وبوجه خاص موريطانيا الشرقية أو القيصرية، وكلها رُويَتْ بدماء الجزائريين منذ قرون، وكانت القيصرية تمتد من وسط الجزائر الحالية إلى المحيط الأطلسي، وعاصمتها “شرشال” ( ويكيبيديا) وكان ملكها “يوبا الثاني”(52 ق.م – 23 م) قد تزوج من “كليوباترا سيليني”، ابنة “كليوباترا” من “مارك أنطونيو”، وبنى لها عند وفاتها الهرم المستدير الوحيد في التاريخ.
وتحاورنا في أمر اللغة بشكل أعترف أنه كان متسرعا ولم تتم دراسته بشكل واسع معمق، وهو رأي أستاذنا “العربي دحّو”، وهكذا اعتُمد تعبير “الأمازيغية” في نهاية الأمر انطلاقا مما كتبه “عبد الرحمن بن خلدون” وأكده “عبد الحميد بن باديس”، وكلاهما أكد نسب “مازيغ” بن كنعان بصفته الأب الأول للأمازيغ.
وكان مما كُتِب في هذا المجال، دراسة “عثمان سعدي”، الشاوي الأمازيغي، والتي أشار فيها إلى أن “لغة دولة ماسينيسا كانت الكنعانية الفينيقية البونيقية التي كانت، قبل الإسلام ولمدة سبعة عشر قرنا، اللغة المكتوبة الرسمية في سائر أنحاء المغرب العربي، محاطة بلهجات شفوية بربرية.
وخير من وضح هذه المسألة، كما يقول عثمان، هو المستشرق الفرنسي هنري باسيه H.Basset عندما قال: “إن اللغة البونيقية لم تختفِ من المغرب إلا بعد دخول العرب، أي أن هذه اللغة دامت سبعة عشر قرنا، وهو أمر عظيم”.
وجاء الإسلام بلغة القرآن الكريم فحلت محل الكنعانية في القرن السابع الميلادي، واستمرت البربرية حولها وبجانبها في مناطق معينة على شكل لهجات شفوية، ووجود البونيقية السابق هو الذي يفسر انتشار العربية لاحقا وبسرعة بالمغرب الكبير، وللإسلام فضله الكبير.
وعندما نعرف أن اللغة الأمازيغية تضم عدة لهجات، وهناك أكثر من توجّه لكتابتها، سواء بالأحرف العربية أو بالأحرف اللاتينية أو بأحرف “التافيناغ” (وواضح أن أصل هذه الكلمة مأخوذ على كلمة الفينيقية) يمكن أن نتساءل : بأي لهجة وبأي أحرف سوف يكتب السيد ماكرون تاريخه الجزائري “الجديد” !!، والتساؤل موجه أساسا للذين هللوا لما قاله الرئيس الفرنسي من أن التاريخ سيكتب باللغتين العربية والأمازيغية، مما يؤكد نوعية وانتماءات مستشاري “الإيليزيه”.
هنا يأتي أمر آخر.
فعبر التاريخ الطويل والصراعات المتواصلة للسيطرة على المنطقة عرفت البلاد، إلى جانب مكوناتها الرئيسية من عرب وبربر، المئات من الأسرى والآلاف من شراذم جزر البحر الأبيض الذي جاء بهم الاستعمار الاستيطاني مع الفارين من الألزاس واللورين ليرسخ بهم وجوده، بجانب مئات الآلاف من اليهود الذي كان معظمهم من لاجئي الأندلس، واستقبلهم المغرب العربي بكل كرم وأريحية، لكنهم عزلوا أنفسهم عن مساره وعن مستقبله بقبولهم قانون “كريميو ” عام 1870، والذي منحهم الجنسية الفرنسية فأصبحوا جزءا من الوجود الفرنسي، وأحيانا أكثر عدوانية، كما حدث في قسنطينة منتصف الثلاثينيات.
هؤلاء جميعا هم ما أصبح يُسمّى “الأقدام السوداء”(ربما نسبة لنوع الأحذية التي كان يلبسها الغزاة) وهم أساس ما تعتبره فرنسا “الأمة في طور التكوين”، وهذا يجعل من الشعب الجزائري، صاحب الأرض الأصلي منذ قرون وقرون، مجرد جزء من هذه الأمة “المبتكرة”، وبالرغم من أنه يشكل الأغلبية السكانية إلا أنه سوف يُعتبر “القريب المُفلِس” للأمة، وسيكون له مجرد صوت واحد من بين الأصوات المتعددة.
أي أن الأغلبية ستصبح أقلية، والتاريخ سوف تلتهمه الجغرافيا.
ولا بد هنا من التذكير بأن كثيرين من أبناء جزر البحر الأبيض وشواطئه ممن استقروا في الشمال الإفريقي أصبحوا، بإسلامهم، جزءا من النسيج البشري للمغرب العربي، ومنهم “جوهر الصقلي”، ابن صقلية الذي فتح مصر في العهد الفاطمي، والرئيس التونسي الأسبق “باجي قايد السبسي” الذي تروي “ويكبيديا” أن أصله من سردينيا، وكان جده مستشارا لباي تونس.
ومن المؤكد أن هناك عشرات أو مئات وربما آلاف ذابوا في النسيج البشري للمنطقة، ومن غير المستبعد أن يكون منهم يهود يشكلون خلايا نائمة تنتظر الفرصة الملائمة.
وإذا كان كل أولئك هم الذين يراد اعتبارهم “أمة في طور التكوين” فإن المؤكد وبالكلمات الواضحة المحددة أن الخلفية هي الانتقام التاريخي من الوجود الإسلامي في المتوسط، وربما الانتقام التاريخي من فتح الأندلس، ليكون الهدف في مراحل قادمة التخلص من الانتماء العربي الإسلامي، بتاريخه الأمازيغي وعمقه الإفريقي وبعده المتوسطي وتأثيره الحضاري.
ولقد شرحت، في الحديث الماضي، مؤامرة فرض الألقاب العائلية في الجزائر لبتر الصلة العائلية للمواطن الجزائرية بأسلافه، أي بقبيلته ومسقط رأسه ومثوى أجداده.
ومن الطبيعي أن يعمل الغرب المسيحي-العبري لترسيخ هذا الاتجاه، فهو يحقق وجوده الاستراتيجي عبر المتوسط، ويضمن حاجياته من الطاقة والمواد الأولية، ويفتح أمامه الأسواق الإفريقية وفي مقدمتها السوق الجزائرية.
لكن الغريب في الأمر كله هو ذلك التهليل الذي تابعناه من بعض الأشقاء، الذين لم يدركوا أن “أمة في طور التكوين”، وبغض النظر عن أنها خرافة مزقتها الثورة الجزائرية، هي قنبلة انشطارية موقوتة يمكن أن تنفجر في وجه الجميع، خصوصا والأطماع الإسرائيلية لم تعدْ سرّا كالخيانة الزوجية أو المثلية الجنسية، بل أصبحت مصدر فخر وتفاخر لمن تعرفون.
وقد شعرت بالاشمئزاز وأنا أتابع بعض التعليقات، التي حجب فرع شجرةٍ عن أنظارها غابة مليئة بالهوام، وكان منها ما راح، ومن راح، يتغرغر بمعطيات تاريخية مبتورة وخلفيات فكرية مشبوهة (وإلى درجة الاستعانة بأفكار بعض من انتقلوا إلى رحمة الله ممن لم يُعرفْ عنهم موقف ثوري واحد)
وهكذا كان منهم من راح ينتهز الفرصة للإساءة لقيادات عربية وطنية، اجتهدت وأصابت واجتهدت وأخطأت، لكنها كانت تجسيدا لحب الوطن، وكان الهدف تمجيدا ضمنيا لمن يتم تسييرهم، بكاسيتيات “الفيديو”، من قادة الزمن الرديء.
غير أن الأمانة تفرض عليّ أن أحيي أشقاء كراما لم يسقطوا في فخ الابتذال، وأدركوا أن من الحماقة أن يبصق المرء في بئر قد يضطر غدا إلى الشرب من مائه، وتركوا المهمة للذباب الإلكتروني بتوقيعاته المختلفة، وهكذا فضح قوم أنفسهم بأنفسهم.
هل نفهم الآن خلفية انسجام البعض مع “غرغرة” الرئيس الفرنسي الباحث عن عهدة جديدة في رعاية “روتشيلد”، برغم أن “موسيو” تراجع مؤكدا بأنه لا مشاكل مع الشعب الجزائري وبأن علاقاته مع الرئيس عبد المجيد تبون جيدة، أي أن مشكلته في الجزائر هي “نوفمبر”، بكل ما يعنيه.
وهنا ندرك تهافت الادعاءات التي تزعم أن سبب سقوط الحزب الإسلامي ناتج عن سوء أدائه مدنيا واجتماعيا، أي أن السبب ليس “التطبيع” كما يدعي قومجيون “ماكِرون”، بكسْر الكاف !!، فالتطبيع تسبب فيه عناد الجزائر، لا أكثر ولا أقل.
ومن هنا…فالجزائر يجب أن تكون “أمة في طور التكوين”، ومعزى، أو معزة، ولو طارت.