بقلم – ا. حذامي محجوب: رئيس التحرير
في وقت مبكر جدًا، حلم الإنسان بالأتمتة، وميكنة الفكر والاستدلال.
ثمرة هذا الحلم، هذا الاختراع التقني، هذا العلم الجديد، الحوسبة الأساسية، بما أدى إلى ظهور مجال جديد: الذكاء الاصطناعي.
تحقق الحلم تدريجيًا، مما زود الإنسان بغذاء للتفكير فيما يتعلق بالطرق والأشياء والعواقب الاجتماعية لاستخدام هذه الآلات الغريبة “العاقلة”.
الذكاء الاصطناعي يغير اليوم العالم ويهدد الإنسان في مصيره، هذا ما يردده اليوم الناقدون الذين يتابعون عن بعد تطور العلوم ومنجزاتها، اما المفكرون والفلاسفة فقد سبق ان تنبؤوا بتحول جذري لثقافة الإنسان وتغير في بنية عقله على غرار ما وقع في تاريخ العلم، فقوة الانجاز العلمي لا تكمن فقط في تغيير الواقع وانما في قدرته على تغيير بنية العقل نفسه. فالصين تاريخيا مثلا هي التي وضعت اول منظومة مالية قائمة على العملة الورقية، متكاملة للتعامل بها، وبمجرد عودة مكتشفي الصين زمن ماركو بولو الى أوروبا محملين بأدوات جديدة كالعملة الورقية المنسوخة وقع اختراع آلة الطباعة على يد يوهان غوتنبرغ الذي يعد اول مطبعي 1440م والذي أحدث ثورة أوقفت نشر الكتب يدويا ومكنت الصحافة المكتوبة من الظهور.
اذا كان الذكاء الاصطناعي يخيف العامة اليوم فلا ينبغي ان يفزعهم، فالعامة في كل زمان لا تواكب تقدم العلوم بل تقاوم ذلك، ولاتكتفي بالتحذير منه بل تعاديه وتتشبث بموروثها الثقافي واحكامها المسبقة.
صرح فرويد سنة 1917 ان العلم قد أحدث ثلاث صفعات نفسية كبرى للإنسان، اذلت غروره وطعنته في صميم نرجسيته، شكلت نقاط تحول عنيفة تاريخية جعلت منه يتغير في مسارات الحياة وفي فهم ذاته والعالم.
انها صفعات خلفت انجراحات. حددها فرويد بالثورة الكوسمولوجية على يد كوبرنيكوس التي قوبلت برفض عنيف لأنها برهنت على ان الأرض ليست مركز الكون، وبالتالي زعزعت احساس الإنسان بعظمته على أساس انه في قلب الكون، الصفعة الثانية هي تكوينية تزعمها داروين حين نزع عن الإنسان التميز التكويني والأصول السماوية عنه، والحقه بمملكة الكائنات الطبيعية ليتابع العلماء تطوره فوق سطح الأرض عن طريق الحفريات والتشريح والمخابر، اما الصفعة الثالثة فهي لطبيعة النفس البشرية في عقر دارها عندما اكتشف فرويد ان اللاوعي مسؤول عن معظم افعالنا وان كل ما يصنعه الإنسان يتم في اطار عملية تصعيد لرغبات مكبوتة.
صفعات مازالت مربكة الى يومنا هذا للكثير منا، ولكنها كذلك محفزة للكثير مع تقدم العلوم والتكنولوجيا وتطور البحوث وبروز الذكاء الاصطناعي.
لذلك فان الذكاء الاصطناعي في تصور العلماء والمفكرين ليس سوى تكثيفا لكل الصدمات الكبرى التي عرفتها الثقافة الإنسانية في تاريخها.
انه تتويج لمسار تقدم العلوم ودليل على ذكاء الإنسان على صنع ما هو من جنسه أي الذكاء. ولكن ما يقض مضجع البشر اليوم هو وقوع ما تنبأ به العلماء وهو الانقراض المبرمج للمهن وحتى للفنون، فلنفترض اننا نطلب من السيدة فيروز بانه سيقع استغلال صوتها في 37 دولة وب37 لغة. لا اعتقد ان ذلك سيسعدها وسترفض الذكاء الاصطناعي ولكن اذا اقتنعت بتسويق صوتها مقابل ما ينقذ اقتصاد لبنان ويجعله يتعافى فلا اشك بانها سترى في ذلك واجب وطني.
هنالك فكرة تتردد اليوم في كل منتديات نقد الذكاء الاصطناعي وهي فكرة ” التعويض” بمعنى ان الحضارة أصبحت اليوم مهددة ببروز عالم الخوارزميات الذي سيقضي على مهن الإنسان وعلى ابداعاته ويتعاظم هذا التخوف اليوم أكثر من قبل، لأنه تبين ان الذكاء الاصطناعي لن يقضي على المهام الشاقة كما كان شأن التقنية ولكنه يسعى كذلك الى تعويض انجاز الابداع ومواقع القرار.
لقد صدقت نبوءة ارسطو بانتهاء العبودية في اليوم الذي نصنع فيه آلات، وربما سيتخلص البشر من سيادة الإنسان على اخيه الإنسان بالذكاء الاصطناعي.
لا أخاف من الآلة اذ يبدو ان الشيء الوحيد الذي لا يتمتع به الذكاء الاصطناعي هو الانفعال الفيزيولوجي الحاصل عن طريق الهورمونات والناقلات العصبية، الذكاء الاصطناعي لا يحبّ ولا يحقد، لا يحزن، لا يفرح، لا يخاف من الفقد والموت، لا يرغب في الحصول على المال ولا يسعى الى افتكاك سلطة !!..