الزعيم.. الحاضر الغائب

بقلم – ا. حذامي محجوب – رئيس التحرير

القائد العظيم هو ذو رؤية ثاقبة، فهو يرى ما لا يراه الآخرون.. يرى المستقبل وكيف السبيل اليه.

 عندما أتحاور مع ابناء جيلي من المثقفين والنخب، وحتى من أصحاب المهن الحرة والعمال اي عامة الناس، ورغم أن معظمهم كانوا معارضين في شبابهم لحكم الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، إلا ونبرة من الحسرة تنتابهم كلما استعادوا تاريخ تونس على امتداد العقود الاخيرة لحكمه وما شهدته بعد ذلك من أماني مغدورة وخيبات متتالية عاشتها البلاد منذ مرحلة مرض وشيخوخة المجاهد الاكبر، والتي ادت إلى سقوط تونس في مرحلة حكم المرحوم الرئيس زين العابدين بن علي.

منذ 25 جويلية 2021، تعيش تونس مرحلة أخرى عسيرة من تاريخها الحديث، حيث يسود انقسام غير مسبوق بين موالين ومعارضين لسياسة وقرارات الرئيس قيس سعيّد ومنهجه في حكم البلاد.

 في الأثناء فان صورة وروح الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة يتمّ استحضارها في كل المناسبات، هذا القائد الوطني الذي ولد في 3 اوت 1903 وتوفي في سنة 2000 -والذي لو بقي حيا لكان عمره اليوم 120 عاما – الحبيب بورقيبة مايزال حاضرا حيا لا في قلوب التونسيين فقط، بل حتى في اذهانهم، هنالك مقارنة متواصلة بين حكم بورقيبة وبين حكم الرئيس قيس سعيد.

 تتجه العودة الى فترة حكم بورقيبة كمرجعية وكنموذج حكم اكثر من العودة الى فترة حكم بن علي رغم انها تلته.

لماذا هذا الرجوع ؟ وماذا بقي من اثر للحبيب بورقيبة ؟ وماذا عن الفكرة والتجربة البورقيبية اليوم في حياتنا ؟

بعد سنوات من إزاحة بورقيبة عن السلطة (1987) وانقضاء سنوات على وفاته (2000)، ورغم الجدل الذي تثيره شخصيته خاصة في بعدها “الاستبدادي ” عند البعض والأبوي عند البعض الاخر، فانه ورغم مرور العقود والأعوام يظل دون منازع هو الفاعل السياسي الثقافي والاجتماعي الاهم الذي ترك بصماته في تونس وعلى التونسيين.

 عندما نتحدث عن الهوية التونسية فإننا بالأساس نتحدث عن الانجاز البورقيبي..

 لان الزعيم هو الذي أسس لمفهوم وفكرة “الأمة التونسية”، لا يمكن ان نتحدث في تونس عن دولة حديثة دون الرجوع الى ما اسّسه بورقيبة، اي دون الحديث عن مكسب دولة القانون والمؤسسات ومجلة الأحوال الشخصية ونشر التعليم وتعميم الصحة، وتكريس الوحدة الوطنية التي تأسست عليها الدولة الوطنية الحديثة.

الحبيب بورقيبة اليوم في مرقده في مدينة المنستير

ليس معلما او مزارا للسياح فقط، لكن أيضا هو قبلة للسياسيين الذين يسعون إلى إظهار ارتباطهم بمسيرته السياسية كلما ضاقت بهم السبل وعجزوا عن تقديم الاضافة والمنجز، لا نقصد الذين ينتمون إلى الحزب الدستوري الذي أسسه، بل كذلك الرؤساء الذين تداولوا على الحكم في قصر قرطاج على اختلاف مراجعهم وبرامجهم

 منذ ثورة 2011 الى يومنا هذا باستثناء طبعا

المنصف المرزوقي أول رئيس غير منتخب بعد الثورة، كان هذا الاخير حاملا لروح نقدية ثارية في تعامله مع الرصيد السياسي لبورقيبة بحكم انتماء والده الذي التجا الى المغرب للعائلة يوسفية، ورغم ذلك كان يعتبر أن لبورقيبة فضائل لا يمكن نكرانها كالتعليم وتحرير المرأة وتحرير البلاد من نير الاستعمار الفرنسي.

ومع وصول الباجي قايد السبسي إلى سدة الحكم إثر انتخابات 2014، عاد زخم الاهتمام بشخصية بورقيبة وبالارث التاريخي لبورقيبة، إذ اعتمد الباجي قايد السبسي – الوزير المخضرم على امتداد ثلاثة عقود في زمن حكم بورقيبة – على تراثه الحزبي والسياسي وتوجهاته في قضايا المرأة وتحديث المجتمع، وكسب بها تأييدا واسعا في البلاد، تمكن بفضله من ازاحة الاسلاميين من الصفوف الاولى للحكم ومن اقامة نوع من التوازن في البلاد، بفوز حزبه ” نداء تونس”.

 لكن هذا ” النداء ” الذي تشكل حول شخصية قايد السبسي وضم أجنحة متعددة كان يجمعها أساسا هدف مقاومة الإسلاميين، سرعان ما تفتت إلى أحزاب صغيرة.

و عندما تولى قيس سعيّد الرئاسة سنة 2019، ورغم مجيئه إلى السياسة دون تاريخ نضالي حزبي ولا حتى رصيد سياسي مهم، الا انه حرص بدوره على الحفاظ على زيارة مرقد بورقيبة في كل سنة عند ذكرى وفاته. ورغم اختلاف فكر قيس سعيّد السياسي والفكري مع فكر الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، إلا أن محاولاته إظهار ارتباطه بشخصية بورقيبة ورصيده السياسي لا تخفى على احد، ولعلها تعود الى مصالح سياسية وحسابات في صراع على السلطة لا اكثر.

يبدو ان قيس سعيد لا يقنع بان يكون رئيسا للجمهورية التونسية فحسب، بل يحرص على ان يقدم نفسه كزعيم مؤثر مثل الحبيب بورقيبة، وذلك انطلاقا من تفرده بكتابة دستور جديد اسس فيه لنظام رئاسي مطلق، كما انه يقدم نفسه كصاحب مشروع لن يغير به تونس فحسب بل العالم ككلّ، لذلك نراه يردد شعارات عامة مثل “تصحيح مسار الثورة” و”القضاء على الفساد” و” الشعب يريد” و” اثارة القضية الفلسطينية ” و” مقاومة الامبريالية العالمية ” وما الى ذلك من الشعارات الرنانة التي يلتقطها المؤيدون ويبنون عليها انتظاراتهم واضغاث احلامهم ( فانتازما ) القومية والاقليمية والدينية وحتى الماركسية ….

لكن الحقيقة هو ان قيس سعيّد من خلال تقرّبه من بورقيبة ومحاولة احتوائه لرمزية هذا الزعيم الوطني والعالمي، يسعى الى افتكاك هذا الرصيد التاريخي للزعيم من بعض خصومه السياسيين الذين يعلنون انتماءهم وتبنيهم ومواصلتهم للمشروع والانجاز البورقيبي واقصد بهم انصار الحزب الدستوري الحر، لسيما الاستاذة عبير موسي رئيسة الحزب المعارض الناشط على الميدان والتي سجلت في السنوات القليلة الأخيرة تقدما كبيرا في استطلاعات الرأي.

هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى فان سعيّد يدرك استمرار تأثير بورقيبة على أجيال عديدة، لذلك فان تقربه من تراث الزعيم الراحل لا يعدو الاّ أن يكون محاولة للتقرب كذلك من الشباب المتعلم الذي مايزال يرى في تراث بورقيبة السياسي قاعدة ومنطلقا لمواصلة بناء دولة حديثة.

لكن لا يخفى على المتمرسين بالسياسة والبعيدين عن غوغاء الشعبوية ان افكار وتوجهات الرئيس قيس سعيّد تختلف جوهريا عن رؤية بورقيبة وعقيدته السياسية ذات التوجه الوطني البراغماتي المتشبع بقيم الحداثة الغربية. فضلا عن اختلاف فكر قيس سعيد الشعبوي ذي المنحى العروبي، الذي يؤسّس لقرارات سعيّد وخصوصا منذ 25 جويلية 2021، بعدما فعّل الفصل 80 وجمع تقريبا كل السلطات بيديه، في اتجاه تفكيك وتفتيت آخر ما تبقى من الدولة الوطنية الحديثة التي وضع بورقيبة والآباء المؤسسون الاول قواعدها، بهدف إقامة ” النظام القاعدي ” و” الشركات الاهلية “.

إن مجد الاوطان ليس في نهاية الامر إلا في سيرة بناتها اولئك الرجال العظماء.

 رحم الله الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة.