بقلم: د. خالد التوزاني
كان الإنسان رحيماً بأخيه الإنسان، قبل أن يخترع وسائل الدمار التي شرّد بها الإنسان أبناء جنسه، كان الإنسان إنساناً عندما كان في الطبيعة يحمي أبناء جنسه، وكانت فطرته نقية وسليمة، ينظر إلى السماء فيقول يا رب، وينظر إلى الأرض فيقول الحمد لله، قبل أن يخترع الآلة ويعبدها من دون الخالق، ليقسو قلبه ويشتد، فيجفّ الدمع ولا يرى غير المال والسلطة والجبروت..وعوض أن يدافع عن أطفاله أمام مخالب الحيوانات المفترسة، تحوّل الإنسان نفسه إلى “حيوان مفترس” يأكل أبناءه ويعلو فوق الأرض وينظر إلى السماء باحثاً عن كواكب أخرى يزرع فيها الرعب.. ولا يشبع من الدم.. فهل كان سقوط الطفل ريان في البئر ضرورياً لكي يستعيد الإنسان إنسانيته، وهل كانت جائحة كورونا ضرورية ليكتشف الإنسان إنسانيته؟ هل كان لابد من محنة لتأتي المنحة؟ هي سُنّة الحياة، وقانون الكون في الرجوع إلى الأصل، وفي العودة إلى الحق، فالإنسان لحم ودم، وإحساس لا يمكن تصنيعه أو تحويله إلى آلة تستهلك وكفى، دون أن تشعر بالأذى، وتعبّر عن الوجع والأسى.. وقد كان هذا الإحساس سائداً في الجائحة ثم تجدّد مع حادث الطفل المغربي ريان.. ليعلن هذا الطفل ميلاد الإنسان الذي كان.
لن ينس العالم مشاهد إنقاذ الطفل المغربي ريان، الذي سقط في بئر عميق بمنطقة جبلية وعرة، بشفشاون، شمال المغرب، منذ عصر الثلاثاء فاتح فبراير 2022، حيث مكث الطفل ريان في البئر خمسة أيام، وقد نقلت السوشيال ميديا مشاهد حركته في البئر بفضل تكنولوجيا العصر، حيث تم إنزال كاميرا في البئر ومتابعة تطور حالة الطفل ريان ووضعه الصحي، وقد تابع الملايين من سكان العالم، محاولات الإنقاذ مباشرة، ولعدة ساعات متواصلة، دون توقف، ومن زوايا مختلفة، وأمام أنظار المئات من الصحفيين ومراسلي وسائل الإعلام الدولية التي حجّت إلى مكان الحادث، وآلاف من المواطنين المغاربة الذين قدموا إلى عين المكان من مدن بعيدة، لتقديم الدعم والمساندة والتطوع في عمليات الإنقاذ، ولن ينس العالم مشهد المتطوعين من الشباب والأطفالوهم يقومون بمحاولات النزول إلى البئر وقلق الانتظار، دون جدوى، ليضطر خبراء الإنقاذ اللجوء إلى الحفر.
وتواصلت عمليات الحفر، أيضاً دون توقف، ودون كلل أو ملل، جهود واضحة يبذلها رجال الوقاية المدنية و الدرك الملكي والقوات المساعدة والمتطوعين والسلطة المحلية ، وعموم المواطنين في إقليم شفشاون والنواحي، من أجل إنقاذ الطفل ريانالقابع في عمق البئر لمدة زادت عنسبعين ساعة..
ومما زاد من الأمل في نجاة الطفل ريان وإنقاذه، هو الكاميرا التي تم إنزالها إلى البئر ومشاهدة الطفل وهو يتحرّك مما يدل على أنه ما زال على قيد الحياة، وارتفعت الألسن بالدعاء، وانتشرت صور الطفل في مواقع التواصل الاجتماعي، ليتجاوز النطاق التراب الوطني إلى خارج المغرب، فنرى قنوات عالمية، مثل الجزيرة مباشر تبث مشهد إنقاذ الطفل نقلا عن أحد المواقع المغربية، وقنوات أخرى تنقل الخبر، فضلا عن القنوات الوطنية، مما جعل الطفل ريان.. يتحول إلى قضية عالمية..
لقد برهن هذا الحدث عن روح عالية من الإحساس بالمسؤولية المشتركة التي يتحلى بها المغاربة، فالجميع يفكر في الحلول، وعدد كبير من الشباب يعبرون عن رغبتهم في التطوع للنزول في البئر، والعديد من الاقتراحات والبدائل من أجل تسريع عمليات الإنقاذ.. أصبح الطفل ريان، طفل الجميع، تحوّل إلى رمز للأمل ورمز للكفاح مستقبلا لتوفير الوسائل المتطورة والخطط الاستباقية لمثل هذه الحالات المفاجئة، أصبح الطفل ريان مصدر قوة للشباب المغربي المخترع من أجل إبداع تقنيات جديدة مستقبلا لتكون سنداً وعوناً في مثل هذه الكوارث.. أصبح الطفل ريان علامة على وحدة الشعوب العربية والإسلامية، كما كشف الطفل ريان عن عمق العاطفة التي توحد الشعوب العربية، وبرهن الحدث عن روح عالية من العمل والصبر والتضحية والإحساس بالمسؤولية والتضامن والكرم والتعاون.. هذه القيم التي تصنع عظمة الشعوب وتمنح أفرادها طاقة العمل..
نعم، قد تنقصنا الوسائل المتطورة، لأننا أمة لم تبدع تكنولوجيا الذكاء الصناعي، ولكن لا ينقصنا الأمل والصبر والتضحية والرحمة، لا ينقصنا التضامن والتعاون، إن هذه القيم هي التي تصنع المعجزات، سواء نجحت المحاولات أو فشلت، فقدر الله لا مفر منه، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، والمغاربة شعب مؤمن بقضاء الله، يعمل الأسباب ولا يدخر جهداً في العمل، ولكن تبقى إرادة الله فوق كل إرادة أخرى، وهذا ما يفسر هيمنة الدعاء للطفل ريان بالحفظ والنجاة.. على مواقع التواصل الاجتماعي، الدعاء سلاح المؤمن، وبذل الأسباب ضرورة أكيدة..
لقد برهن المغاربة وعموم الأمة العربية والإسلامية، عن روح عالية من الإخاء والتضحية، وسيكون حادث الطفل ريان دافعاً لرفع التحدي مستقبلاً في مواجهة هذا النمط من الكوارث، ولن يكون ذلك إلا بتطوير التعليم والتصنيع والعمل المشترك بين العرب من أجل تجاوز العديد من التحديات التي يواجها العرب اليوم وعلى رأسها الإمكانات المادية، اليد قصيرة والعين بصيرة، ولكن الهمة عالية والنفوس كبيرة والشباب كله أمل وطموح للعمل من أجل غد أفضل.
إن حادث الطفل ريان.. وهو في البئر، يقدم دروساً بليغةً للإنسانية في الصمت والصبر والتضحية والرحمة، ويمثل كل أطفال العالم الذين يقبعون في المخيمات والملاجئ والشوارع.. الذين يحتاجون إلى حشد كل الطاقات من أجل إنقاذهم، ومن أجل عالم خالٍ من الحروب والنزاعات..هناك الكثير من العمل ينتظرنا من أجل الوصول إلى تسامح وتعاون دولي حقيقي أمام الأزمات التي تهدد البشرية..