الكلمة المفتاح وتبعاتها.. في خطاب سعيد وخارطة الطريق

الموقف السياسي

يكتبه عبد اللطيف الفراتي

تونس /الصواب / 14/12/2012

” في الفاتح من جانفي 2022″ هذه العبارة التي تصدرت عناصر خارطة الطريق التي تفوه بها أخيرا رئيس الدولة، قيس سعيد، في خطابه يوم 13 ديسمبر، مستبقا به ما أعلن عن أنه سيفاجئ به، يوم الاحتفال الجديد بعيد الثورة.

وإذ غير بنص ترتيبي موعد عيد الثورة واستبدل، 14 جانفي ب،17 ديسمبر، فقد خالف المتعارف عليه في الثورات جميعها، حيث الاحتفال بأعيادها، كان يوم انتصارها لا يوم اندلاعها، هذا إذا كانت ثورة فعلا، ثورة على غير المعهود من توفر قيادة، وسبق فكر، وتوجه واضح، فأشهر الثورات اعتمدت فكرا وقيادة وبرنامجا، الثورة الفرنسية مثلا سبقها مفكرون نظروا ( بتشديد الظاء) لها أمثال فولتير ومونتسكيو وغيرهم، والثورة البلشفية في موسكو سبقها كارل ماركس، وأنجيلز، ولينين، والثورة الإسلامية في طهران نظر لها الخميني، وكان هدفها تنفيذ ” تعاليم ” الشريعة الإسلامية من وجهة نظرهم.

أما الثورة في تونس فإنها لم تتوفر لها قيادة، ولا سبقها فكر، ولم يكن لها برنامج، بل كانت طفرة، ساعد على نجاحها هروب رأس الدولة، تاركا أعوانه أيتاما، بحيث لا يعرفون طريقا لمسارهم لأنهم لم يتمرسوا به فعلا أيام كان خضوعهم كاملا له.

بعد 5 أشهر من التلمس المتردد، حدد رئيس الدولة خارطة طريق، تنتهي في 17 ديسمبر 2022، بانتخابات لا يعرف أحد لليوم محتواها ومضمونها.

ولكنه في خضم ذلك الخطاب الذي استمر 40 دقيقة، ترك كلمة مفتاح، لعلها هي التي تحيط بفكره، والمستقبل الذي يريد أن يخططه لتونس فارضا توجها في الغالب غير مقبول.

والكلمة المفتاح هي ” الفاتح من جانفي 2022 “، في أول موعد لبدء تنفيذ برنامجه، وهذه الكلمة بقدر غرابتها على الاستعمال التونسي، حيث تعودنا في تونس على استعـــمال ” الأول ” أو “غرة الشهر “، فيما هي تذكر بما كان معمولا به في القاموس السياسي للعقيد معمر القذافي، وإذا أضفنا إلى ذلك ما يتردد، ولو لم يكن على لسانه، بل في أفواه الحملة التفسيرية التي تنسب نفسها إليه، ولم يأت ما يكذبها، من الحديث عن ” بناء قاعدي”، يستبدل الطرق التمثيلية في الانتخابات، كما في سائر الديمقراطيات، سواء العريقة أو الأقل عراقة في الدنيا، بطريقة هلامية غير واضحة المغالم، ربما تذكر باللجان الشعبية في ليبيا بين 1969 و2011، مضافا إليها الحديث عن الشركات الأهلية، التي تذكر بمقولات العقيد القذافي ” شركاء لا أجراء “، يؤكد ذلك أن الشركاء سيكون لكل واحد مهم في الشركة صوتا واحدا، مهما كان مبلغ المساهمة، ما يذكر بفكرة التعاضد النبيلة، التي فقدت كل حسها الرفيع، بعد فشل تجربة بن صالح وما تركته من ندوب في الذهنية التونسية تجاه التعاضد، رغم مرور 50 سنة على تطبيقها الفاشل.

وإذ يؤكد أساتذة القانون الدستوري الذين تعود الرئيس على الالتقاء بهم واتخذهم غطاء له، أو على الأقل بعضهم أنه لا بديل عن الديمقراطية التمثيلية، فليس هناك ما يوحي بأنه، بعد استعمال صيتهم، وسعة علمهم، سوف لن ينفذ ما يعتمل في نفسه، بما يفرغ الديمقراطية الحقيقية من كل مضمونها، ويحولها إلى ممارسة غريبة، من شأنها تـــقطيع أوصال الدولة، وضرب الوحدة المجتمعية، ولا أحد يمكن أن يرده عما انتواه، فقد اشتهر لدى من يعرفونه وأنا واحد منهم، بأنه عنيد في طباعه، لا يتراجع عن فكرة ارتآها، ولو وقف كل العالم مسفها لها، ولعل الرجل الوحيد الذي كان يمكن أن يثنيه عما اعتزمه هو العميد المرحوم عبد الفتاح عمر، الذي كان مثله الأعلى كالكثيرين ولكن أين هو، وقد كنت ألتقي بقيس سعيد وكذلك شوقي قداس يكاد في كل مرة أزور فيها العميد في مكتبه الصغير بعد، أن ترك العمادة في كلية العلوم القانونية، ولم يطلب التجديد وكان ذلك متاحا له، وإني لأذكر يوما اجتمعنا فيه بمحض الصدفة في مكتب الأساتذة في تلك الكلية، العميدة نائلة بن شعبان، والعميد الأزهر القروي الشابي الوزير السابق والعميد السابق للمحامين ومحمد بوراوي وأنا، غالبا في أواخر 2012، وتطرق بنا الحديث إلى الثورة في تونس وما إن كانت تخضع فعلا لمقومات الثورة بالمقاييس العلمية، فكان الأستاذ قيس سعيد الوحيد الذي أصر على اعتبارها ثورة، رغم أنها لا تتوفر على مقومات الثورة المتعارف عليها، مؤكدا أنها فعلا ثورة غير مألوفة أو غير نمطية Atypique، لا تخضع للمتعارف عليه، بحكم المتغيرات العالمية بدخول عنصر الثورة الرقمية والاتصالية، نقلت العالم الكبير إلى قرية صغيرة، طبعا لم يقنعنا بوجهة نظره، ولا تخلى عنها، أمام الحجج التي اعتمدناها، في أنها لم يسبقها فكر، ولم تتوفر على قيادة، وليس لها برنامج أو منهج، دليل ذلك أن حــــراس المعبد القديم، هم الذين استلموا السلطة في البلاد بعد فرار الرئيس السابق، ولم يعرفوا كيف يحافظون عليها.

والخلاصة، أن البلاد تسير نحو المجهول، في ظل قيادة منفردة متفردة، تسن بدون تعقيب، ما تراه من قوانين تحت تسمية مراسيم، لتفرض على البلاد ما تريد من توجهات غريبة، لن تكون فيها شبهة ديمقراطية، إلا إذا اضطر المجتمع أن يوقف هذا الزحف نحو المجهول.

وفي الأثناء، فإن الرئيس قيس سعيد، بحكم قلة إدراكه، لتبعات المغامرة التي دخلها بدون برنامج مسبق، يوم 25 جويلية، يكون قد أنقذ البلاد مما تردت فيه، تحت حكم استمر 10 سنوات وأوقع تونس على ركبتيها، وزيف الديمقراطية، وكان يعد نفسه للبقاء باسم الدين لمدة قد تطول وقد تقصر، ولكن لا تقل عن عدة عقود.

كان يمكنه أن يكتفي بشهر أو شهرين لتغيير القانون الانتخابي ونظام الاقتراع، وإصلاح قوانين الأحزاب والجمعيات، وتنقية المناخ، ـ اعتمد حوارا وطنيا حقيقيا لوجد كل ذلك جاهزا ـ، ثم للدعوة لانتخابات تشريعية في ظرف 90 يوما، ولكن قصده كان غير ذلك، فلعله أراد فرض نمط حكم لا سابقة له في بلد ديــمقراطي، يتـــــعلم به ” الحجامة في روس اليتامى “

fouratiab@gmail.com