بين الشرع والعقل، المملكة تقرر !

بقلم – حذامي محجوب

رئيسة التحرير

يقال عادة، إن العقل الذي يسمو إلى معرفة الحقائق الأبدية لا يفنى حيث يتداعى الجسد.

يفد على المملكة العربية السعودية كل سنة الملايين من المسلمين في مواسم الحج والعمرة.

تبلغ ايرادات الحج والعمرة حوالي 12مليار دولار سنويا.

وقد سمى الله في كتابه العزيز مكة ” أم القرى”،لانها قبلة لأهل الارض كلهم، انها أشرف البقاع وأفضلها، تهفو اليها قلوب المؤمنين وترنو اليها أبصارهم وأفئدتهم في كل الصلوات، استجابة لدعوة ابراهيم عليه السلام ” رب اجعل هذا بلدا آمنا وأرزق أهله من الثمرات” الآية 126 من سورة البقرة.

انها المدينة التي أقسم بها الله تعالى، في حول كون الساكن فيها حالا لينبه على عظمة قدرها في حالة احرام أهلها” لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد” ( الآيتان 1و2 من سورة البلد).كما قال الله عنها في الآية

3 من سورة التين ” وهذا البلد الأمين”.

 لقد جعلها الله حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون “.

هذه هي مكة قبلة المسلمين، وهذا هو مقامها عند الله سبحانه وتعالى وفي قلوب المسلمين، لذلك ما فتئت المملكة العربية السعودية منذ نشأتها تحشد كل امكاناتها كلّ سنة لاستيعاب تنامي عدد الحجاج والمعتمرين، توجّه كل قدراتها لتطوير مشاعر الحج وتوفير الخدمات اللازمة للاحتفاء بضيوف الرحمن.

من هنا نتفهم مشاعر الخيبة والحزن التي عبر عنها العديد من المسلمين الذين تلقوا الخبر الذي أعلنته المملكة العربية السعودية يوم السبت 12 يونيو 2021,بأن موسم الحج سيقتصر هذه السنة على مواطنيها والمقيمين بها نظرا لاستمرار انتشار جائحة الكوفيد 19 وظهور تحورات جديدة له في العالم، وقالت وزارة الحج أنه سيسمح لحوالي 60 الف شخص فقط بتأدية مناسك الحج هذا العام، وستتراوح أعمارهم بين 18 و65 سنة وجميعهم تلقوا التطعيم حسب وكالة الانباء السعودية الرسمية.

كان هذا الخبر صادما لكل المسلمين الذين كانوا يأملون في أداء فريضة الحج هذه السنة خاصة المتقدمون منهم في السن، ويبدو خوفهم وحزنهم مفهوما ومعقولا، فالنبي صلى الله عليه وسلم، قد قال حين اضطر للخروج من مكة ” والله انك لخير أرض وأحب أرض الله الى الله، ولولا اني خرجت منك ما خرجت ” ( رواية الترمذي).

فاذا كان الرسول قد بكى لاضطراره الخروج منها، فما بالك بالذي قضى كامل حياته متشوقا اليها، حالما بزيارتها ؟

تقرر اذن تعليق الحج، أو بالأحرى تقرر تخفيف وجود المسلمين في الحرم المكي والمسجد النبوي.

ان هذا الفيروس الذي تعاني منه البشرية منذ سنة تقريبا والذي يتميز بسرعة العدوى التي تسبب في العديد من الحالات مرضا وخيما وعجزا كبيرا يصيب في جانب كبير منه الأشخاص الذين يعانون من حالات مرضية مزمنة باعتبارهم أكثر عرضة للاصابة بمرض أشد وخامة، وهذا حال غالبية المسنين الذين لايخفى على أحد عددهم على الاراضي المقدسة اثناء الحج.

ان قرار وزارة الحج والعمرة السعودية هو اجراء وقائي، انه قرار لا بد من اتخاذه وهو يدل على حرص حكومة خادم الحرمين الشريفين على حفظ صحة المسلمين، وسلامة أرواحهم عملا بقول الله تعالى في سورة الحج ” واذا بوأنا لابراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع، والسجود”.وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال ” اذا سمعتم به(مشيرا الى الطاعون)بأرض فلا تقدموا عليه، واذا وقع بأرض وانتم بها فلا تخرجوا”، أي أن الرسول الأكرم قد حذر من التنقل في حالة انتشار وباء حتى لا يبلغ الاراضي الاخرى.

نسأل الله ان يحفظنا جميعا، ونطلب من المملكة ان تواصل حرصها على سلامة الحرمين بسلامة قاصديها..

لقد سبق ان توقف الحج 40 مرة منذ العام التاسع للهجرة بسبب اضطرابات سياسية أو انتشار الاوبئة او بسبب تقلبات مناخية، وكذلك الخوف من قطاع الطرق واللصوص في فترات حرجة من تاريخ أمتنا.

ان العقل والشرع يتفقان على ضرورة حفظ حياة البشر ووضع مصلحتهم فوق كل اعتبار، يهدد هذا الفيروس حياة الحجيج الذين يقصدون المملكة من كل بلدان العالم، فكيف يمكن لخادم الحرمين الشريفين الذي أؤتمن على طهارة البيت ” للطائفين والقائمين والركع والسجود ” ان يسمح بالحج بعد أن ثبت أن التنقل والاختلاط والازدحام، كلها أسباب مباشرة لانتقال وتفشي العدوى.

 فضلا على ان فقهاء المسلمين قد أجمعوا على أنه يجوز ترك الحج عند مجرد خوف الطريق، بل ان الاستطاعة ( لآداء الحج)لا تتحقق الا بالامن والامان، يقول تعالى في الآية 97 من سورة آل عمران ” فيه آيات بينات مقام ابراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا ومن كفر فان الله غني عن العالمين”.

فالامراض الوبائية هي من الاعذار المبيحة لترك الحج، كما ان الفتوى اليوم تقوم على مصلحة الحاج، لذلك هي تقوم اساسا على الرأي الطبي،اذ لا بد ان يلتزم الحاكم برأي الجهة الصحيحة لانها المعنية الاولى بتقصي الداء وتشخيص الدواء لدفع البلاء.

هذا يتوافق مع الراي الشرعي الذي يقوم على تفضيل درء المفسدة على جلب المصلحة.

فالانسان اذا مرض او مات فلن يستطيع ان يستوفي عبادته، اما اذا أفلت من المرض فسيكتب الله له الحج باذن الله تعالى.

 انّ العقل المتأمل الراضي أفضل ما يمكن امتلاكه من قبل الانسان، لهذا ندرك مدى حكمة القرار السعودي.