حامد ابراهيم*: مأزق “اليمين” أم أزمة “النظام الحكوبرلآسي”..!

ذات مساء من السنة الجامعية 1988 /1989 نظمت كلية الحقوق والعلوم السياسية والاقتصادية بسوسة محاضرة خارج الدروس الرسمية وكان موضوعها ” اليمين في التشريع التونسي ” والمحاضر انذاك استاذ مساعد بالكلية اسمه قيس سعيّد.

ولا أريد ان ادعي كذبا انني اتذكر محتوى المحاضرة ولكن بامكاني ان اجزم مرتاح الضمير بأن من القاها تمكن من كسب اهتمام الحاضرين.

وفي هذه الفترة المفعمة بالتجاذبات السياسية والقانونية استحضرت ذاكرتي ما سبق في محاولة لفهم الحالة الدستورية التي افرزها رفض السيد رئيس الجمهورية قيس سعيد تمكين الوزراء المدرجين في التحوير الوزاري الاخير من آداء اليمين امامه.

وبالرجوع الى ابجديات مقررات مادة القانون الدستوري فان ما يجري الان في تونس وان كان في ظاهره اشكالا قانونيا الا انه ملف سياسي بامتياز واسبابه أسَّسَ لها المجلس التاسيس عندما وضع أُسُس النظام السياسي التونسي في الدستور الجديد والذي بني على كثير من التوافقات التي قاربت احيانا توحيد التناقضات باستثناء الاتفاق على حاجة تونس الى نظام برلماني فقد كانت محل شبه اجماع لافتراض انه صمان ضد عودة الاستبداد الذي اُُرجعت اسبابه للدستور السابق الذي كرس النظام الرئاسي وتحول الى رآسوي بين 1988 و 2010.

اما ما لم تكن تعرفه الاطراف السياسية الفاعلة في المجلس التاسيسي هو ان الواقع السياسي والوضع الاجتماعي الاقتصادي والمحيط الاقليمي والدولي بامكانهم قلب التوازنات الى حد خلق وضع دستوري لا اجد له توصيفا في ما قراناه في مدارج كليات الحقوق وسأجازف بتسميته: النظام الحكوبرلآسي.

هذا المستحدث اللغوي ليس الا اختزال لنظام تتقاسم فيه ثلاثة اطراف السلطة وهي الحكومة والبرلمان ورئيس الجمهورية واذا غاب التوافق او التنازل من احد الاطراف تحولت الاليات الاجرائية الدستورية الى ميكانيزمات قانونية لتجاوز تعقيدات الوضع السياسي الذي افرزته الانتخابات.

وعلى خلاف ما يتصوره الكثير فان المازق في تونس ليس قانونيا ولا يمكن تجاوزه باللجوء للقضاء الاداري وانما بتناول المسالة في عمقها السياسي وجوهرها الاجتماعي الاقتصادي.

فما تحتاجه منظومة الحكم باكملها في تونس هي الاجابة عن السؤال القديم المتجدد حول طبيعة النظام الاقتصادي واي دور للقطاع العام في ضمان التنمية والتوقي من حتمية الوقوع في املاءات المحاور خليجية كانت ام غربية.

وهذا ليس طرحا يساريا وانما حتمية ادركتها كل الدول الرائدة اقتصاديا بما فيها الولايات المتحدة الامريكية ودول الاتحاد الاوروبي اللذين استغلوا ازمة 2008 المالية وجائحة كورونا لتاميم الشركات ذات الثقل الاستراتيجي بحجة انقاذ قطاعات هيكلية وهذه حتمية املتها المواجهة مع الاقتصاد الصيني الذي يُسيّر راسماليا تحت تحكم الالة السياسية الشيوعية.

وبما ان مسار العدالة الانتقالية في تونس مازال بعيدا عن المستهدف المجتمعي الذي حققته تجارب اخرى مثل جنوب افريقيا وروندا من حيث الصفح والتجاوز للالتفات الى تحديات المستقبل، واعتبارا لاتساع فجوة الخلافات بين العائلات السياسية رغم التقائها احيانا في نفس التوجه في المجال الاقتصادي والاجتماعي فان الخروج من الازمة لن يكون متاحا في غياب الاتفاق على ثوابت التوجه الاقتصادي التي ستفرز آليًا أُسس النظام الاجتماعي وستبوصل العلاقات الخارجية عوضا عن محاولة فرض رؤية لعمل المؤسسات بناء على تحالفات خارجية مسبقة ليست بالضرورة في انسجام مع طبيعة التاريخ والجغرافيا والديمغرافيا التي تتميز بها تونس ومحيطها المباشر.

ورجوعا لمأزق “اليمين” وجب التذكير بانه في الانظمة البرلمانية يتم اعداد “عقد تحالف” بين الاحزاب التي تتفق على تشكيل حكومة يرأسها مرشح من الحزب الاغلبي في التحالف وتتحمل الحكومة المسؤولية في اداء مهمتها ملتزمة حرفيا بعقد التحالف مع امكانية الرجوع للبرلمان للحصول على تزكية قرارتها استثنائيا في القضايا المستجدة والظرفية مثلما هو الحال في المانيا في ازمة الكورونا.

وأما في التجربة التونسية فالامر في كليته مبني على الاشخاص ولا على البرامج ولذلك حتى وان تغيرت الشخصيات المقترحة للحكومة ونالت ثقة البرمان وتمكنت من اداء اليمين فسيبقى الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي على حاله لان الحقائب اسندت بدون وثيقة تكليف ويبقى المتعهد بالوزارة مطالبا بالاجتهاد دون خارطة طريق منطلقاتها الخطوط الكبرى لتوجهات الدولة الاستراتيجية وجوهرها رؤية الاحزاب المتحالفة لكيفية تنزيل الاستراتيجية في تفصيلات تطبيقية على ارض الواقع.

حامد ابراهيم*: خبير في العلاقات الدولية