حوار خاص مع أ. مهاتير محمد: التغيير الحقيقي بعد الثــــــــورات … يتمثل في طبائع النــــاس وسلــــــوكــياتهـم

* أول قرار اتخذته بعد اعتلائي منصب رئيس وزراء ماليزيا ترسيخ معنى النظام بين الجميع

* البطالة وهروب الاستثمار أشد أزمات مابعد الثورات

* الاسلام في ماليزيا منهج حياة والقيم سلوك وليست شعارات جوفاء

 تونس – عرب 21 – ابوبكر الصغير :

شدد الأستاذ مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الأسبق على أهمية الحوار بين القيادة والشعب مؤكدا على أن المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار تمثل الجسر الآمن للخروج من الأزمات مهما صعبت وقال ان ماليزيا واجهت بالحوار المفتوح أزماتها المستعصية ونجحت من خلالها في الوصول إلى حلول ناجحة وسريعة. وعن الثورات ورؤيته للوضع بالمنطقة العربية. قال الأستاذ مهاتير محمد ان المنطقة تعيش اليوم على «فوهة بركان» بفعل حالة التوتر التي تحياها الدول الرئيسية والمؤثرة على الخارطة مطالبا بإنهاء التظاهرات والتجمعات واصفا اياها ب «طاردة الاستثمار» والأرض الخصبة لميلاد البطالة. وعن الأسلوب الأمثل لتخطي الوضع الاقتصادي «المتردي والمخيف» طالب رئيس وزراء ماليزيا الأسبق بالابتعاد نهائيا عن سياسة الاقتراض والاعتماد على الموارد المحلية وعدم فرض ضرائب على الاستثمار الأجنبي تشجيعا لهذا المورد المهم، وألمح أ. مهاتير محمد إلى ما اعتمدته ماليزيا من سياسة تقشفية على كبار موظفي الدولة دون تفريق لتخطي أزماتها. وعن الإسلام في ماليزيا والقدرة على توظيف الدين لصالح التنمية قال ان الإسلام في ماليزيا منهج حياة وان الشعب الماليزي يعي تماما أن القيم الإسلامية ليست شعارات ومظاهرات خارجية… وإنما هي سلوك عملي ينبغي ترجمته إلى أعمال مفيدة للمجتمع…. وعن الديمقراطية والحرية تلك المفردتين اللتين أساء الكثيرون فهمها أبدى مهاتير محمد مخاوفه من أن تتحول الديمقراطية حال إساءة مفهومها إلى فوضى مطالبا بحدود للحريات الممنوحة للشعوب.

وفيما يلي نصّ الحوار الخاصّ الذي كنت أجريته معه قبل عقد من الزمن، ولكن بالاطلاع على ما ينقله لنا من مقاربات فكانه يتحدّث عن واقعنا الرّاهن :

تعيش المنطقة العربية اليوم حالة من التوتر بفعل الثورات… فما هو تقييمكم لهذه الصورة وتداعياتها السلبية على الاقتصاد العربي بشكل عام؟

المنطقة العربية تعيش مرحلة صعبة وان جاز التعبير «على فوهة بركان»… بفعل التوتر الحاصل في كثير من الدول من جراء موجة التغيير… هذه الدول في حاجة ماسة إلى جهود أبنائها وتفعيل فضيلة «التكاتف» بين كل قواها السياسية والشعبية… وأيضا حتى تستطيع الخروج مما يمكن أن نطلق عليه أزمة «ما بعد الثورة» كما ينبغي عليها وبشكل سريع إنهاء المظاهرات والتجمعات – فئوية كانت أو غيرها – باعتبارها البوابة التي يخرج منها الاستثمار بلا عودة… كما أنها أرض خصبة لميلاد البطالة وأسمحو لي أن أؤكد أن الفوضى التي حلت ببعض دول المنطقة العربية كانت بسبب اساءة الفهم الصحيح للديمقراطية وعدم استيعاب دلالات المفردة جيدا… كما أن الحريات التي أراد الشعب نيلها «والتي هي حق مشروع له» كانت بلا سقف أو حدود فكاد الأمر أن ينقلب إلى فوضى.

وفي رأيكم ما الصور المثلى للخروج مما أطلقتم عليه «أزمات ما بعد الثورات»؟

في رأيي أن أهم عوامل الخروج من الأزمات بكافة أشكالها يتمثل في التأكيد على أهمية الحوار بين القيادة وأبناء الشعب… وهذا ما تتخذه ماليزيا أسلوبا خلال تعرضها لأي أزمة لذا يجب إجراء «حوار مفتوح» لمواجهة المشكلة وحلها وتفعيل المشاركة الشعبية بوصفها «الأهم»… كل هذا مع التأكيد على أن التغيير ليس تغييرا في الأشكال والأشخاص والسياسات واستبدال رئيس بآخر، وحكومة بأخرى، بل التغيير الحقيقى يتمثل في طبائع الناس وسلوكياتهم… ولا أخفي عليكم أن أول قرار اتخذته بعد اعتلائي منصب رئيس الوزراء هو الذهاب للعمل مبكرا وترسيخ معنى «النظام» بين الجميع.. فالنظام يقود الشعوب إلى عبور أحلك أزماتها وأصعبها.

يضع الجميع اليوم يده على قلبه من الوضع الاقتصادي الذي يتهاوى عربيا.. ففي رأيكم ما أسرع الحلول للخروج بالاقتصاد العربي من هذا النفق؟

ينبغي على الدول العربية الاهتمام ب «تنوع المصادر الدخل وعدم الاكتفاء بمصدر واحد لأن الاعتماد على «مورد يتيم» يعرض البلاد للانهيار حال انهياره ففي مصر مثلا تهاوى الاقتصاد لاعتماد مصر على السياحة فقط كمصدر أساسي فيما أغفلت موارد أخر كان بمقدورها أن تحدث حالة من «التوازن» كما أنادي الدول العربية بالابتعاد النهائي عن سياسة الاقتراض من صندوق النقد والبنك الدوليين اذ: «ان هذه المؤسسات قائمة على المنافسة المطلقة غير المقيدة، والتي يأكل فيها القوي الضعيف دون اعتبار لأي جانب آخر- بمعنى أن المساواة في الفرص ومراعاة الفقراء لا تدخل في أجندة صندوق النقد الدولي، وما على شاكلته بقدر اهتمامهم أولا وأخيرا بالكفاءة والقدرة ومضاعفة الربح للأغنياء على حساب الشرائح الأخرى في المجتمع» ولهذا: «ان الأصلح اعتماد ما يمكن تسميته بسياسة التقشف والاعتماد على الموارد المحلية المتاحة حتى لا يتم الخروج من نفق إلى نفق بديل، كما أنني أنصح بعدم فرض ضرائب على الاستثمار الاجنبي حتى لا نفقد هذا المورد المهم… كل هذا يضاف إلى «الادخار» باعتباره أهم الموارد المحلية التي من الممكن أن تنهض بالاقتصاد.

التجربة الماليزية «تجربة فارقة» وأنموذج ينبغي على الدول الأخرى الاقتداء به فما أهم موارد الاقتصاد التي ساهمت في النهضة الماليزية؟

التجربة الماليزية نجحت لأن المواطن والحكومة أرادا لها النجاح…. كما تمكنت ماليزيا من استثمار طاقات ابناء شعبها خير الاستثمار واعتبرت الاستثمار في البشر أهم دعائم تنميتها لذا ركزت على كل الجوانب التي تنهض بالإنسان علميا واقتصاديا واجتماعيا وخلقيا أيضا… وعلى الرغم من الاهتمام الكبير الذي أولته ماليزيا بقطاع الصناعة والذي يشارك بنسبة 90% حيث تنتج ما يزيد على 85% من صناعة السيارات الا إنها لم تهمل القطاع الزراعي وتعد من أكبر الدول المصدرة لزيت النخيل والمطاط نعم لقد نجحت ماليزيا في احداث توأمة بين كل القطاعات والخدمات لترقى بوضعها اقتصاديا وهذا ما تحقق فعليا.

بلغة الأرقام… كيف تقيمون فترة توليكم لرئاسة وزراء ماليزيا وهل تشعرون اليوم برضا عما قدمتم؟

لا يحلو لي وصف «فترة رئاستي بالناجحة واكتفي بما يراه الناس ولكن كاستعراض رقمي لهذه الفترة أرى أن ماليزيا حققت معدلات نمو ثابتة وصلت إلى 7 -9 على مدى عشر سنوات متتالية كما تضاعف متوسط دخل الفرد الماليزي 16 مرة من 600 دولار عام 1980 إلى 10 آلاف دولار عام 2001 كما ارتفعت قيمة الصادرات الماليزية من 5 مليارات دولار عام 1980 إلى نحو 100 مليار دولار عام 2002. اما بخصوص حالة الرضا فانا سعيد بما قدمت وتظل أحلامي وأمنياتي لماليزيا وشعبها موصولة لا يوقف طوفانها منصب أو مكان.

استطعتم بفضل مواهبكم القيادية التعامل مع الأطياف والأعراق المتباينة داخل ماليزيا وإحداث حالة من «الوئام العرقي».. كيف تم ذلك؟

نعم وجود أطياف وأعراق متباينة يعد من أهم القضايا التي تعوق التنمية في أي بلد…. لذا كنت حريصا على إحداث حالة من الانسجام والاستقرار والأمن بين المسلمين وغيرهم من البوذيين والهندوس من أجل العبور بماليزيا وتحقيق التنمية بكافة صورها… نجاحي في الوصول إلى «الوئام العرقي» مرجعه تطبيق سياسة العدل تجاه كل الأعراق وعدم الانحياز لفصيل دون غيره الأمر الذي يقوي الشعور بالقومية ويجعل الجميع على وعى ورضا بالعيش المشترك.

الفساد هو الفيروس الذي أفسد الجسد العربي. فكيف واجهتم هذه الآفة حال النهوض بماليزيا؟

ماليزيا لديها أنظمة وقوانين حازمة لضبط الفساد أولا بأول… الأمر الذي يقطع أمام المتلاعبين والمرتشين والفاسدين… كما أننا نعتمد «السرعة» في أداء الإجراءات الحكومية ونتخذ إجراءات رادعة في حق من تثبت في حقه الإدانة… هذا كله يضاف إلى وجود مؤسسة متخصصة لاستقبال شكاوي المواطنين يلجأ إليها الجميع بالشكوى في حال تعرضه لوسيلة من وسائل الابتزاز أو رؤيته لأي شكل من أشكال الفساد.

غزت منتجات الصين ماليزيا شأنها شأن كل البلدان.. هل شعرتم بالتخوف حيال ما يطلق عليه رجال الأعمال ب بسياسة «الإغراق»؟

لم نشعر بالتخوف بل على العكس فتحنا أبواب ماليزيا لهذه المنتجات… ولكن في حدود استخدامها ك «مدخلات إنتاج» بالنسبة للسلع الماليزية فلقد نجحنا في توظيف ما أطلقتم عليه بالإغراق لصالح منتجاتنا وهنا يكمن سر النجاح.. في ماليزيا نؤمن بأن السلعة الجيدة والمنتج المتميز يدوم بقاؤها طويلا وينشدها الجمهور فأما ما عداها فلا يركن طويلا لذا لا بأس من وجود المنتجات الصينية بجوار منتجاتنا الأكثر جودة.

انتقلت ماليزيا بالتعليم انتقالة سريعة حتى علت صروح الجامعات على أرضها في سنوات توليكم من 5 جامعات إلى 80 جامعة.. ما ملامح هذه الانتقالية؟

استفادت ماليزيا من التجارب الخارجية وخاصة اليابان ووجهت إليها طلابها للتعليم والتدريب ولنقل الخبرات في مجال التكنولوجيا والتي تمثل أساسا للتقدم العلمي ولا أبالغ إذا قلت أن ماليزيا صارت بفضل الطموح والرغبة مقصدا تعليميا عالميا للطلاب من جميع أنحاء العالم حيث يوجد داخلها 100 ألف طالب من 100 دولة مختلفة… كما ارتفع عدد جامعاتها إلى 80 جامعة… وتصنف الجامعات الماليزية ضمن أول 200 جامعة عالمية أما عن الميزانيات فتخصص الدولة 25% من ميزانيتها سنويا للتعليم وتهتم بشكل أساسي بتكنولوجيا المعلومات باعتبارها أهم وسائل الاتصال الخارجي… ليس هذا فقط بل أولت ماليزيا البحث العلمي جل اهتمامها وخصصت ميزانيات ضخمة للبحوث التي تركز على منتجاتها حيث زاد إنتاج المطاط عشر مرات وتصاعدت إنتاجية زيت النخيل بشكل لافت.

تمثل «ماليزيا» بسلوك أبنائها العلمي الوجه المعتدل للإسلام الأمر الذي يؤكده قدرتها الفائقة على توظيف الدين لصالح التنمية… فما قراءتكم لهذا الأمر؟

الإسلام به كل القيم التي تعود إلى العدل والمساواة وتنادي للعلم والعمل كما أنه «منهج حياة» لابد من استخدامه كوسيلة للتقدم وبناء الإنسان… ولقد نجحت ماليزيا كل النجاح في تحويل القيم الإسلامية إلى سلوك عملي تتم ترجمته على أرض الواقع بشكل يخدم المجتمع وأبناءه وليس مجرد شعارات ولافتات ومظاهر خارجية. نعم لقد اتخذت ماليزيا من «الدين» الذريعة القوية في رحلة تنميتها وكان المواطن الماليزي مدركا لمعاني ودلالات هذا الأمر فلم نلمس الشطط والمغالاة بل صورة مثلى لتطبيق معاني الدين والتسامح مع الآخر.