يصعب علينا، اليوم، الهرب من الأسئلة والتحديات اليومية التي يطرحها عصرنا بقوةٍ ، كأفرادٍ ومجتمعات، فالحياة لم تعد كهفاً مختبئاً في الجبال أو في جزيرة صغيرة طافية في البحار، بل هي تجري قوية هادرة في شوارعنا وحياتنا اليومية حاملةً كلّ المتغيرات التي تظهر هنا وهناك في أرجاء العالم. لا يمكننا أن نهرب ممّا تضخّهُ علينا وسائل الإتصال، رغم أنها تسبب لنا الضيق والصداع دائماً، لكننا حين نهرب فسنكون قد تحاشينا الأمر لبعض الوقت ، وسنعود ونضطر لاستقبال أمواج بحرها الهادر. ورغم أن عصرنا خليط من مكوّنات مادية وروحية واقتصادية وسياسية وإعلامية وثقافية وغيرها، لكنّنا يمكن أن ندرك، ببوصلتنا الداخلية ، أن هناك صراعاً حضارياً واضحاً بين التقدم والتخلف.. بين الحرية والقيد.
يزداد قلقنا حين نعرف أن مجتمعاتنا مازالت لا تدرك حجم المشكلة في عطبها الحضاري والثقافي ، ولا تعرف أنها حين تهمل مراجعة أسباب جهلنا وتخلفنا، وحين تطالبُ بتعميم الجهل واستدعاء الماضي وكأنه مفتاح سحري لمشكلاتنا، دون أن تنظر إلى الأسباب المباشرة الواضحة أمامنا. الذهاب للماضي لا يكون من أجل البحث عن حلولٍ للحاضر، بل هو من أجل اليقظة من عدم تكرار الفشل ، أما مفتاح مشاكل الحاضر فيكمن في العمل الدؤوب والعلوم والتكنولوجيا والفلسفة والتحليل القائم على معطيات الواقع .
هناك من يذهب للماضي لكي ينام فيه أو يتخدّر فيه فينام، ويشعر بنشوته لمجرد أنه يتناسب مع طريقة تفكيره ، دون أن يرى حجم الخراب، في مجتمعه، والناشئ عن مثل هذه الأفعال. الماضي المقيم في حاضرنا بحاجة إلى تشخيص ونقد وتحليل ، وبحاجة لاستخلاص قيمه المفيدة ونبذ ما تجاوزه الزمن. حضارات وثقافات هذا الزمان تتقدم بالعلم والحرية والتعليم الراقي والعمل المنتج، وتتراجع حين يهيمن عليها الماضي ويصادرها.
وخصوصيتنا الثقافية والحضارية يجب أن لا تكون عائقاً في طريق تقدمنا وتطورنا. لابد من القول أن الكثير من الشعوب النامية انتبهت لكسلها الحضاري، في العقود الأخيرة ووجدت في العلم والتكنولوجيا والتجارة العالمية سبيلاً للنهوض والتقدم، بعضها كان مثقلاُ بماضيها وبالفساد المستشري في خلاياها، لكن قادتها ونُخبها انتبهوا للسبيل الذي يمكن أن يجعلها في حالٍ آخر، واستطاعوا النهوض بشعوبهم والإندماج في دورة الإنتاج وحركة الاقتصاد العالمي، فشمخت مدنها بالعمارة الحديثة ودبّ في حياتها النشاط والعمل.
شعوب منطقتنا العربية غارقة في جهلها ومصرّة على التخلف ، لأنها تقف من العصر الحديث ووسائل نهضته موقفاً سلبياً، وهي لا تحب العمل ولا تساهم في العلم ويهبط مستواها التعليمي كلما مرّ الوقت. كنّا نقول، سابقاً، أن القيادات السياسية لهذه الشعوب هي المسؤولة الوحيدة عن هذا التخلف، لكننا نرى اليوم أن الشعوب أكثر تخلفاً من تلك القيادات وأكثر إصراراً على التخلف والبقاء في سكون التاريخ وعدم الشعور بالتقصير الحضاري.
مازال البعض يرى أننا أفضل الأمم دون أن ينظر إلى الإخفاقات التي وصلنا لها في كل شيء، ومازال هناك من يرى أن أقداراً وقداساتٍ تحمينا دون أن ينتبه لحجم الضياع الذي نحنُ فيه، مازال البعض يعمل جرودات واسعة في الحلال والحرام دون أن يحترم عقل الإنسان في التمييز بين ما يضره وما ينفعه في عصر كهذا.. مازال هناك من يتعاطى التعليم على طريقة الكتاتيب في عصر الإنترنيت والتواصل الواسع. ما يهمني هو الوصول إلى نتيجة حاسمة والقول بأن الزمن يمضي بقوة وسرعة إلى الأمام، ونحن نتراجع في حركة معاكسة له، وقد يأتي اليوم الذي يتخطانا فيه الزمن إلى الأبد ولا يعود بإمكاننا الإمساك بفرصة اللحاق بشعوب كانت في آخر قائمة التطور، حينها لن يفيد الندم، وسنجني على أبنائنا وأحفادنا ونحرمهم من العيش الكريم والمستوى اللائق الذي ستصل له شعوب العالم.
• • خزعل الماجدي: باحث من العراق، وهو متخصص في علم وتاريخ الأديان والحضارات القديمة، وهو أيضاً شاعر وكاتب مسرحي .