خولة قلعة جي: الجسد عند ” معول”

الفنون الحداثية والفنون مابعد الحداثية تتميز بالغرائبية، والسعي الحثيث نحو اللامتوقع وغير المالوف والمستفز، فنرى الضخامة والتعارض والتعابير العنيفة المضطربة التي تبدو أحيانا صادمة للمتلقي، هكذا هي اعمال الفنان الفرنسي المغربي الأصل، معول بو شايب المعروف باسم “معول”، المختص في فن الحفر والرسم والنحت، ولد في مدينة الصويرة بالمغرب وانتقل الى مرسيليا، تستند أعمال معول إلى مفارقة تاريخية تتساءل عن معاناة الجنس البشري وجنونه، وهو يجمع بين النقش والرسم والنحت. حداثة معول الفنية تداعيات على الجسد الذي يتظاهر كوناً، تداعيات زمانية-مكانية على منجزه التشكيلي. تم فيها تجاوز أبعاد الجسد الفيزيولوجية لتجتمع في داخله رسومات الكهوف والأجهزة الإلكترونية الحديثة وبعض الأسلحة وزخرف بربري وأصداء ولهو وصخب.

يقول فياللا” كل لوحاتي أشبه بجزء من شيء متواصل، كأنه لا يوجد سوى لوحة وحيدة ضخمة ومثالية، أقوم باقتطاع جانب منها لأضعه في لوحتى”.

نرى هذا الضرب من التشكيل الفني في شخصيات الفنان التشكيلي معول بو شايب المنفلتة والمتداعية شكلاً ومساحة، في استمراريتها الزمنية المسترسلة وفي تواصليتها وفي مدلولاتها التي تشكل لحظة الوعي بماهية الجسد، كونه منطقة عبور واحتواء، وتمزق بين طائرة أو رمز بربري، بين الكمبيوتر أو حيوان بري، فالفنان لايبحث عن التوافقات والنسب الصريحة بقدر ما يترك ثنائياته المتناقضة، تبحث عن تناسق داخل حدود الخط الراسم للجسد، الذي اعتبره مساحة فقام بتضخيمها وتبديل أبعادها، وجعلها أداة تصميمية للفضاء التشكيلي.

يرسم “معول” سلسلة لوحات، بل سلسلة أجساد متمايزة نوعياً، فنلمح الجسد الأنثوي وتحولاته الفيزيولوجية، عندما يتضخم في بعض الأجزاء أو يتطاول في أجزاء أخرى، ونلمح جسداً في المطلق متمرداً متجاوزاً، يحمل قلقه الأنطولوجي هائماً في اللامكان واللازمان، أنها أحجية”معول” التي تمثلت مفهوماً لماهية الإنسان وجوهر وجوده، بينما يصيغ شكلانيته المتعددة والمتحولة، شكلانيته المتضخمة، ليقول لنا أنها قصصاً صغيرة محتواة داخل قصص كبيرة، قصصاً كبيرة بشخصيات كبيرة، تنخرط في اللحظة والآن، شخصيات هاربة من حدود الذات وحدود الرسم واللوحة، هي جزء من شيء متواصل. يرسم “معول” جسداً غير معرفاً، تجبره تقنية الحفر على الظهور محدوداً ومحدداً شكلياً، فيبدو كبيراً، صغيراً، جسداً لاجنس له، جسداً خرافياً، أسطورياً، عارياً إلا من محتوياته الكونية في مرحلة البداوة والبدائية، أو مرحلة علوم الفضاء والإلكترونيات، جسداً مفاهيمياً بأبعاده المتحولة.

يتعمد “معول” ترك الجسد المرسوم يختار أبعاده، تاركاً أي قياس أو دراسة للنسب وهو التعبير الأسمى لتجسيد المتجسد أعباء الإنسانية إذ يقوم بإدماج أكثر من تقنية في العمل الواحد، ليؤكد لنا أنه عندما يبدأ المفهوم تنتهي النسب. أي قد نضحي بالتقنية في سبيل الفكرة. يجمع “معول” في أعماله بين عدة مفاهيم، يجسدها تشكيلياً، وهي الكثرة والوحدة، الايجابي والسلبي، التعددية والتماثل. كما نلمس ازدواجية وكثرة في العلامات المرسومة وتناولاً لرموز الأقاصي المغرقة في القدم.

لأنه يلغي تراتبية الزمن المعهودة ويدخلنا في زمنه الخاص، الزمن الداخلي لأنه لا مرجع له سوى صاحبه، وصاحبه يختلف في تقديره لأنه يشعر به شعوراً غير متجانس، ولا توجد فيه لحظة تساوي الأخرى، هو زمن متصل في ديمومة شعورية وكأنه حضور أبدي”.

هذا الزمن الداخلي” نحن نعيش في حضور مستمر، نعيش شاخصين باستمرار إلى سيل من الحوادث ينهال أمام حواسنا لا نعرف في هذا الزمن الداخلي سوى ” الآن” ننتقل من “آن “إلى “آن” هذا الزمن الذاتي النفسي، الذي سماه الفلاسفة “الزمن الوجودي”.

إن تمثلات الجسد المتنوعة والمتداخلة عند معول، تعكس بشكل جيد البعد المفاهيمي والزمني لأعماله، فنراه يجمع بين الفن التشكيلي المغربي في أوربا والفن التشكيلي الغربي في المغرب، وهو ينقل هواجسه الفنية من فن معاصر عالمي إلى فن مغربي عالمي، من الزمن الذاتي والخاص إلى زمن كوني.

نميز في منجزات “معول التشكيلية، تمثل للجسد في عصر ما قبل التاريخ، الجسد بملامح مصرية فرعونية، الجسد الخارق، الجسد الضخم، الجسد الروحاني، الجسد الأيقوني، الجسد الرمزي، الجسد المحدد رسماً، الجسد الهجين، الجسد السريالي، الجسد المجزأ، الجسد كأثر، الجسد المسخ، الجسد المستنسخ. يجمع العمل الفني أكثر من صفة للجسد، فهو الجسد ذاته وقد حمل عبء البشرية عبر أزمنتها جمعاء.

وعندما يسأل الفنان عن فساحة الزمن المطروح للشخصيات الممثلة، يقول: “أحاول أن أكتب قصتي الخاصة في التاريخ ، وأضع طابعي في نسيج الثقافات التي تغذيه ، لفهم أصولي البعيدة، لتتبع علامات خطوطي هنا والآن. لكنني أعمل بشكل رئيسي على رسم رؤيتي لأَصلِ البشرية ومصيرها مع التنديد بالعنف المدمر الذي تزرعه مع الجهل والازدراء، لما تنطوي عليه البشرية من ثروات حقيقية محتملة. ثروات قادرة على تزويدها بأفضل ما في العالم ، إذا كانت تعرف فقط كيف تنظر إلى قيمتها الحقيقية”.

خولة قلعة جي