ليس سرّا أخفيه أو موقفا أخجل منه عندما أقول إنني رأيت دائما في قناة “الجزيرة” نقلة نوعية مشرفة في الإعلام العربي. ولقد حرصت دائما على التذكير ببصمتها المتميزة على الوضع في الوطن العربي، وإلى درجة يمكن فيها القول بأن وجودها كان له دور محوري إيجابي في الكثير مما عرفناه في العقود الماضية، وبأن إنجازات كثيرة ما كان يمكن أن تتم لو لم تكن هناك “الجزيرة”، وأيا كانت مآخذ البعض عليها، حقا أو تجاوزا. ولم يتغير موقفي أبدا حتى بعد الشنآن بين القناة وبين الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بو تفليقة عندما استضافه، مترشحا لمنصب الرئاسة في 1999، أحمد منصور، وتعامل معه باستعلائه المعروف وانحيازه المنفّر، وهو ما ينال من صورته كواحد من أحسن الإعلاميين في الوطن العربي والعالم الإسلامي.
وهكذا لم أكن أتردد في قبول دعوات الفضائية للمشاركة في الحوارات السياسية التي تتناول قضايا جزائرية، وهو ما سبب لي متاعب كثيرة مع سلطات نافذة، بحيث أصبحت على يقين من أن ذلك كان واحدا من أسباب سخط الرئيس علي شخصي المتواضع، فهمته ضمنيا من وزير الاتصال الأسبق الأخ الهاشمي جيار يوم قال لي، وعلى مسمع من وزيرة الثقافة السابقة السيدة خليدة تومي: “لو استشرتني لنصحت بألا تتصل أبدا بقناة الجزيرة”، وهو ما تأكد لي في مشاجرة حدثت مع رئيس الأركان الراحل الفريق محمد العماري في قصر الشعب بالجزائر أمام الوزير حميد تمار، خلفيتها موقفي تجاه “الجزيرة” في قضية ضابط المخابرات الجزائرية الفارّ “الحبيب سوايدية”، وهو ما كنت رويته بالتفصيل غير المريح في الأجزاء الثلاثة من كتابي …”وزيرا زاده الخيال”.
وكنت حاولت خلال “مروري” بوزارة الثقافة والاتصال أن أفتح مجال الجزائر أمام “الفضائية” العربية، وكدت أنجح في إعطاء الفرصة أمام السيدة “ليلي الشايب” لفتح مكتب للقناة في العاصمة الجزائرية، لكن هذا تمت عرقلته من قبل بعض المواقع النافذة، بحجة أن الرئيس غاضب على الجزيرة، وبأنها تفتح المجال أمام خصوم الجزائر وأعدائها.
وكنت أقول بأن القناة الإخبارية ليست جمعية خيرية، وبأن علينا أن نقدم وجهة نظرنا بالأسلوب السليم الذي يحترم المنبر والمشاهد، وهو ما حرصتُ عليه شخصيا في تعاملي مع كل المنابر الإعلامية التي تفضلت باستضافتي. كل هذا أزعجتُ به القارئ لكي أشكو مسارعة كثيرين، وحتى يومنا هذا، إلى مكالمتي في كل مرة يرون فيها تصرفا لا يرتضونه من الفضائية القطرية، ومنهم من لا يتردد في أن يقول لي بصراحة أخوية: أرأيت ماذا فعلت “جزيرتك”.
وكنت أقول للرفقاء بكل وضوح إن القناة قطعت صلتها بي منذ سنوات، ولا أعرف إن كان ذلك نتيجة محاولةٍ للتقرب من السلطات الجزائرية، خصوصا وقد سُمِحَ لها أخيرا بفتح مكتب في الجزائر، أو أنه تقييم سلبي لمواقفي التي واصلت اتخاذها كلما أتيحت لي الفرصة لأقول رأيي فيما أراه وأسمعه وأعيشه، ولعله تصورٌ من القائمين على القناة بأنني انتقلت إلى العالم الآخر.
وأجد نفسي اليوم مضطرا لوقفة سريعة بعد أن تلقيت عدة مكالمات غاضبة من بعض الرفاق، وتابعت عدة تعليقات لا تقل غضبا في بعض مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك إثر فيلم وثائقي قدمته “الجزيرة” الوثائقية، مساء الخميس 11 فبراير، وحمل عنوان “جانيتو”. وجانيتو هو كلمة قيلت في فيلم هندي لقي إقبالا كبيرا في جزائر السبعينيات، استعملها الفيلم الوثائقي كستار يمرر تحته نحو خمسين دقيقة من هراءٍ متلفز، كان مملا إلى درجة يمل منها الملل، قدّم جزائريين لا أعتقد أنهم يمثلون صورة صادقة للأغلبية الساحقة ممن نعرفهم في جلّ مناطق الوطن الجزائري، الذي يكاد يكون قارة.
ومضمون الفيلم الوثائقي دردشة تلقائية رأيت أنها لا تهم أحدا من المشاهدين ولا ترتفع إلى مستوى حوار فكري جدير بالقناة التي أعترف أنني من عشاقها، خصوصا وقد تم بثه بعد فيلم وثائقي آخر حمل اسم “سوني”، ويروي رحلة سيدة لبنانية إلى “نيبال” لتحل ضيفة على خادمتها في قريتها الواقعة على بعد 60 كيلومترا من جبال “كاتماندو”، وهو فيلم وثائقي رائع قدم صورة عن بلد قد لا يعرف بعضنا أين يوجد وعن شعب لا نعرف عنه الكثير.
وأحسّ كثيرون ممن ضغطوا على أنفسهم لمتابعة فيلم “جانيتو” أنه “فِعْلٌ” لا ينطلق من طاقة ثقافية تحمل رسالة تشرف القناة القطرية، فهو لم يحاول أن يستثمر الاسم في تقديم دراسة عن السينيما الهندية التي غزت الوطن العربي لتشرح أسباب تعلق المواطنين بها، ولتذكر بفيلمٍ آخر مثل “أمنا الهند” الذي قدم صورة من الكفاح الهندي، وهي صورة يمكن، بل ويجب أن يقتدي بها الوطن العربي، الممزق بين الهرولة واللامبالاة. ولم يتردد على لسان كل المشاركين في الفيلم اسم “غاندي” أو ما يذكر بروعة المقاومة الشعبية ضد المحتل البريطاني، والتي لم تكن مقاومة سلبية بلاغية من نوع “سلميتنا أقوى من مدافعهم”، بل كانت مقاومة فعلية كانت تهدد بتخريب مصانع الأنسجة القطنية في “يوركشاير” البريطانية، وزلزلت احتكار المستعمر لمادة “الملح”، وأجبرت بريطانيا على الإسراع بإرسال اللورد “مونتباتن” إلى شبه القارة لتحقيق خروج آمن لقواتها، وقام “نهرو” باللازم مع عقيلة الأميرال البريطاني، كما تردد على بعض الألسنة، ومن بينهم، على ما أتذكر، محمد حسنين هيكل رحمه الله. ولقد عانيت وأنا أتابع فيلم “جانيتو”،حيث وجدته دردشة من المهين للحوار أن تحمل اسم الحوار، وتذكر ببيت الشعر الشهير عن مقارنة السيف بالعصا، وكانت في معظمها باللغة الفرنسية، مما يعني أن من رأيناهم يشكلون شريحة معينة لها اختياراتها أو موقفها. ومن الفيلم عرفنا أن إحدى السيدات لها أخت تعيش في تونس وابنة تعيش في جنيف، وعرفنا، من خلال لقطة الإذاعة الناطقة بالفرنسية التي قدمها الفيلم، أن متحدثة إلى المذيع، بالفرنسية دائما، كانت تتحدث من موقع عملها، ولا أعرف ما هو العمل الذي مكّن “ناديا” من التفرغ لمكالمة هاتفية تفيدنا أن من كانت تحبه كتب اسمها على ذراعه، وهو ما يعطي صورة عن مدى التزام الشريحة التي يقدمها الفيلم بأداء عملهم الذي يتلقون عليه مرتبا من مال الشعب.
وتنتقل بنا الكاميرا إلى حانوت حلاق، وتتعمد أن تظهِر لافتته المكتوبة بالفرنسية، ثم نتابع حوارا آخر لا يشرف، لتفاهته، تعبير الحوار، يحاول إقناعنا بأن الشعب الجزائري، الأربعين مليونا كما ادعى، كان يحفظ أغاني “جانيتو” أكثر من حفظه للنشيد الوطني، في حين نعرف جميعا أن الجزائر لم يكن فيها ذلك العدد من متابعي التلفزة، بالإضافة إلى أننا نعرف أن كل ما حفظناه جميعا من “جانيتو” كان كلمات محرفة عن الكلمات الهندية، ومع اللحن الجميل لا… لللالا .. لللا …جانيتو …جانينا ….ديلا موسكي …لللا… ومن “الغباء” أن يظن “فاعل” الفيلم أننا من “الغباء” بحيث لا نضطر إلى أن نستنتج بأن اللاوعي وضع على لسان المتحدث ما يعبر عن استهانته بالنشيد الوطني ….”قسما بالنازلات الماحقات”، والذي يبدو أن البعض يأمل في استخلافه كما حدث مع “والله زمان يا سلاحي”، ربما ليس لأنه بالعربية، ولكن لأنه من تأليف “المجاهد” الجزائري مفدي زكريا، ومن تلحين الموسيقار “المصري” محمد فوزي.
ونتحمل لقطات صامتة طويلة مُملةٍ مُملةٍ مُملة، لم يحاول “فاعل” الفيلم تقديمها بخلفية موسيقىة جزائرية تعرّف المشاهد أو تذكره بالبلاد التي اقتبس منها “روسيني” رائعة “إيطالية في الجزائر”، واستوحى منها رافيل “البوليرو” الشهير (والأعزاء في المغرب يرون أن مكان وحيه هو في القطر الشقيق، وهو ما لا يزعجني إطلاقا) ثم تنقلنا الكاميرا إلى دردشة أخرى يعبر فيها “مخلوق”، بالفرنسية دائما، عن سخطه على إغراق البلاد بالأفلام الثورية (وعددها لم يتجاوز عشرة أفلام خلال نحو ستين سنة) وخلال الدردشة يتناول “المخلوق” أغنية محمد عبد الوهاب “أنا والعذاب وهواك” ليستفزنا، بكلمات يسيل منها الاشمئزاز، بأن الأغاني “الفرنسية” لا تتغنى بالعذاب كالأغاني “العربية” … – وافهم يا الفاهم.
ويُسقِط المولى عز وجل القناع عندما يجيب “مخلوق” عن سؤال يقول: ماذا تفعل لو وجدت نفسك في الجزائر… وحدك؟، وتكون الإجابة: أشعِلُ نارا تمحو كل ما فيها….هكذا. ويتأكد ذلك في اللوحة الختامية التي تبين من كانوا وراء الإنتاج، وهو عدد هام كتبت أسماؤهم بالفرنسية، ومرّ بسرعة لا تمكن من قراءة كل الأسماء، لكن “شارة” (لوغو) المؤسسات التي كانت وراء الإنتاج كانت واضحة، وكان معظمها بالفرنسية، باستثناء المركز الثقافي الفرنسي ومديرية الإشعاع الثقافي الجزائري (أي والله).
وأنا أشعر بالأسى لأن فيلما كهذا كان أقل بكثير من مستوى الجزيرة، بحيث بدا أن المسؤولين عن القناة تعاملوا باستخفاف مع المشاهد الذي منحهم ثقته، ولا يعفيهم من المسؤولية القول بأن الفيلم هو إنتاج “جزائري” قدمته مؤسسة تحمل صفة العربية، لأن المضمون هو مسؤولية القناة، وليس ما “يرتكبه” أي جزائري لا يمكن أن يمثل “كل” جزائري، والأمر نفسه بالنسبة لكل عربي، حتى في الزمن الرديء. فمصداقية المنبر هو من صدقية ما يقدمه، وأتذكر هنا أن لقطة في فيلم وثائقي آخر قدمت محكوما عليه بالإعدام يُساق إلى “المقصلة”، ويوضع على رأسه كيس أسود، في حين أن هذا لا يحدث إلا في حالة “المشنقة”، وكان يكفي أن يستشار أحد المجاهدين لكي يعطي الصورة الحقيقية، بدلا من لقطة تثير السخرية من الفيلم ومن القناة نفسها.
والواقع هو أن عدم الاهتمام بكل المعطيات التاريخية لا يقتصر على الجزائر وحدها، فقد لاحظت منذ مدة أن بعض الأفلام الوثائقية عن الحرب العالمية الثانية تقدم كما صاغها المنتجون الأوربيون، وكثير منهم متعاطفون مع الصهاينة أو موالون لهم، وهكذا تُمرّر أحكام مطلقة تدين الخصم بصورة كاريكاتورية تتناقض مع الواقع، وتظهر الألمان دائما كشعب همجي أحمق متغطرس، ويُفرَض علينا أن نصدق أن أدولف هتلر كان مجرد “عريف” نمساوي تافه حصل زورا على الصليب الحديدي، وكان رساما فاشلا وخائرا جنسيا ومحدودا ثقافيا، وبدون أن يكون لديهم ذكاء الانتباه إلى أن تمكّن “الفوهرر” من تجنيد الشعب الألماني عن بكرة أبيه تحت راية الصليب المعقوف، جعل من ألمانيا أعظم قوة أوربية في سنوات معدودة ممزقا اتفاقية 1919، واستثار عبقرية علمائه لاختراع الطائرة النفاثة وجنين القنبلة النووية. وكل هذا يُسقط الاتهامات التي تتكرر منذ نحو 70 سنة، وهو يعطي لهتلر أمام المشاهدين وضعية الضحية، بل يمنحه عظمة يتضاءل أمامها من ينكرونها، ويتناقض مع الصورة الهزيلة التي يرسمونها له، في حين كان من السهل القول إن خطأ هتلر الرئيس، والذي لا شك أنه كان دكتاتورا بكل معنى للكلمة وله أخطاؤه الدموية، أنه لم يتعظ من تجربة نابليون بونابرت، الذي تجاهل أن أعظم جنرالات روسيا هو … الشتاء.
وما زلت، وحتى إشعار آخر، أثق في الجزيرة، وآمل أن يحرص القائمون على الفضائية من الحفاظ على ثقتنا بهم، فيراجعون ما يقدمونه على القناة، للقيام بعملية تنقية لها، إذا لم يدركوا أن مكان بعض الإنتاج الإعلامي هو سلة النفايات.
ولأنني أتذكر الكلمات التي قالها وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني عن “الجزيرة” في حديثه الإعلامي أتوقع منه أن يكون إلى جانبي في هذا الرجاء.
آخر الكلام: عاد الرئيس عبد المجيد تبون إلى أرض الوطن ليستقبله المواطنون بفرحة غامرة، وهم ينتظرون منه قرارات “غاضبة” تستعيد للساحة الجزائرية حيوية افتقدتها.
د. محي الدين عميمور(*) ؛ شخصية وازنة كثيرا في الجزائر وهو سياسي وكاتب ومؤرخ واعلامي وطبيب وضابط.
مقال جيد للدكتور محي الدين عميمور صاحب القلم الذهبي له تحياتي