الإسلام حلقة من حلقات التواصل الحضارى… الفلسفة ضد التعصب وامتلاك الحقيقة المطلقة… التخلف والجهل واليأس.. عوامل رئيسية لانتشار الفكر «الداعشى» ثقافة الهامش تبنت أغانى المهرجانات والبانجو وساعدت على التطرف هناك أسباب كثيرة أدت إلى تخلف أو ترهل الأمة الإسلامية.
وأول سبب أنها أهملت دعوة القرآن الكريم للإنسان للتفكر والتدبر ولإعمال العقل، لأنه إذا لاحظنا سنجد أن هناك آيات كثيرة تدعو الإنسان إلى العمل والتفكير والتدبر فى الكون وإلى الاجتهاد وليس الجهاد فقط، ولكن الاجتهاد بمعنى أن يعمل عقله وملكاته وإمكاناته من أجل الارتقاء بذاته وبالإنسانية، وحتى القرآن دائمًا يخاطب الناس، ولا يخاطب المسلمين فقط، فالعالمية تتردد كثيرًا فى آيات القرآن مثل قوله تعالى: «يا أيها الناس»، لكن للأسف أن ما سيطر على فهم القرآن هو تفسير أحادى تفسير ما سمى بأهل السنة والجماعة، وبدأت المسألة فى الانقسام منذ الفتنة الكبرى.
عندما تصور كل فريق أنه الفريق المبشر بالجنة أو أنه الفرقة الناجية وفقًا للحديث الشريف الذى يقول: «تنتهى أمتى على بضع وسبعين فرقة كلها فى النار إلا فرقة واحدة هى فى الجنة»، ولذلك كل فرقة تصورت ذلك، والفرقة التى سادت معظم تاريخ الفكر الإسلامى هى فرقة أهل السنة والجماعة، وبالتالى هى التى صبغت تاريخ الإسلام بقراءتها للنص المؤسس وهو القرآن الكريم، وهى التى أيضاً فسرت الإسلام نفسه من خلال منهجها المتشدد، لأنه عندنا نجد أن هناك اتجاهًا عمليًا بدأ مع المعتزلة، وأكد أفكارًا أرى أنها ثورية مثل فكرة أن الإنسان حر وأنه لا يجوز للإله سبحانه وتعالى أن يحاسب الإنسان ما لم يكن حرًا، ففكرة التكليف ترتبط بشكل مباشر بفكرة الحرية، والمعتزلة أيضاً قالت بفكرة جوهرية جدًا، وهى فكرة خلق «النص» القرآن، وهذه الفكرة بالرغم أنها تبدو فلسفية بحتة، لكنها مهمة أولاً لأنها لا تضفى قداسة على اللغة، وثانيًا: تجعل النص مرتبطًا بالحدث وبالواقع الذى نزل فيه، بعدما جاء أحمد بن حنبل بفكرته أن «القرآن قديم» وبالتالى أصبح قديم قدم الذات الإلهية، وأصبحت اللغة العربية نفسها قديمة، فأنت قد مارست نوعًا من التجميد أو الجمود على هذا النص المؤسس «القرآن الكريم»، هذا التيار هو الذى ساد معظم فترات التاريخ الإسلامى، وهذا التيار الذى أسميه «الأصولى» بدلاً من «السنى»، فالأصولى الذى يرجع إلى أصل قديم ومنزه، ومبرأ من أى نقص أو شك وأنه دائما يعود للنص وفقًا للمقولة التى يرددها أصحاب الأصوليات الدينية «لا اجتهاد مع النص» هذا التيار هو الذى ساد مرة أخرى معظم تاريخ الفكر الإسلامى من خلال «الغزالى» و«ابن تيمية» وصولاً إلى العصر الراهن، وهناك فى الوسط منهم «الشافعى» وغيره كثيرون، فمعظم فقهائنا من هذا التيار، التيار العقلانى اختفى، وتم تكفير ابن رشد والفارابى وابن سينا وكثير من العلماء أيضاً مثل الحسن بن الهيثم وابن النفيس، واتهامهم بالإلحاد والشك فى دينهم، وبالتالى فقد أدانوا العقل طيلة التاريخ وغلبوا النقل، أيضاً هناك شىء مهم وهو ربط السياسة بالدين عن طريق «الإسلام السياسى» وهى فكرة مبكرة جدًا، فقد بدأت منذ «الفتنة الكبرى» واستمرت طيلة التاريخ، أن الذى يحكم لا يحكم باسم الشعب ولا باسم العقل ولكن يحكم باسم الإله أو النص المقدس، وبالتالى أضفينا نوعًا من القداسة على هذه الشخصيات أيضاً، وعلى التاريخ نفسه، فكل هذا أدى إلى انهيار الحضارة الإسلامية وتفتتها وتفككها نتيجة الحرص الرهيب أو هوس السلطة ونتيجة ضمور العقل ونتيجة الاحتفاء بالنص بصورة مبالغ فيها.
ان الفكر التكفيرى خطير على المجتمعات الإسلامية، أولاً لان هذا الفكر هدام، وهو فكر ضد الإنسان، فعندما تكفر إنسانا فأنت تجرده من إنسانيته، لأنه -من وجهة نظرى- يصبح مباحًا، فإذا تم تكفير أى إنسان فقد أبيح لأى شخص أن يقتله مثلما حدث مع فرج فودة، عن طريق فتوى من أحد المشايخ أدت إلى قتل الرجل، فالفتوى قاتلة إذا كانت تتصل بالتكفير، والإيمان يظل مسألة داخلية، فالذى يكفر إنسانا هو إرهابى ولهذا لا أفرق بين التيارات التكفيرية والتيارات الإرهابية، لأنه مجرد أن يعتقد أى شخص أنه امتلك الحقيقة المطلقة وأن من حقه أن يمارس وصاية على الجميع فقد تحول إلى إرهابى، فمن أعطى له هذا الحق.. ومن الذى منحه هذه السلطة كى يفتش فى القلوب؟، وللأسف أن هذه الجماعة المارقة هى تمارس هذا الأمر بكل بساطة وبكل أريحية استنادًا إلى نص أو حديث، والأحاديث النبوية أو المرويات عمومًا بها أشياء كثيرة تحتاج إلى إعادة مراجعة، لأنه لا يجب أن نمد سلطة القداسة لكل ما يقال، فالنص القرآنى نص مقدس، لكن الأحاديث تحتاج إلى مراجعة، والمرويات تحتاج إلى مراجعة وتمحيص، بما يتلاءم مع العقل والنص المؤسس، فهناك كثير من الأحاديث تعارض القرآن الكريم، فكيف نتقبلها، فنحن نحتاج إلى «غربلة» وإعادة فهم لهذه المرويات وإعمال العقل فيها باعتبارها تراثًا بشريًا فخارج النص المقدس «القرآن الكريم» كله تراث بشرى، يؤخذ منه ويترك منه الذى لا يتناسب مع النص ولا العقل. كما ان الاسلام السياسي خطير على العالم العربي وخطورته تكمن فى أنه أدى إلى تفكيك الأمة الإسلامية، لأن الإخوانى ينظر إلى السلفى على أنه على ضلال والعكس أيضاً، وربما داخل التيارات السلفية نفسها تجد أن كل تيار يخطِّئ الآخر، والشيعى ينظر إلى السنى على أنه كافر والعكس، فلدينا قوة بشرية حضارية كبيرة جدًا إذا توحدت على أرض تدعو إلى الحق الواحد، وأن كلها مجرد تعبيرات مختلفة عن شكل واحد من الإسلام لانتهت المشكلة، فهناك دوامة من التقييم والتقييم المضاد التى قسمت الأمة إلى أقسام أو أدت إلى تشرذم المسلمين، جانب آخر أن الإسلام السياسى هو عبارة عن كوكتيل من أفكار ابن حنبل وابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب، وأبو الأعلى المودودى وحسن البنا وسيد قطب، فهو يأخذ الجانب المتشدد فى الدين، وهذا الجانب منفر أدى إلى إعطاء صورة سيئة عن الإسلام للأسف الشديد، فهذه الجماعات هى أكثر الجماعات التى تسىء للإسلام، وهذه الجماعات أيضاً تستغل من قبل الآخر الأمريكى بالذات ومن قبل المخابرات الغربية فى أنها تؤدى إلى تفكيك وتفتيت العالم العربى، والدليل على ذلك أنهم لعبوا هذه اللعبة فى أفغانستان، زمن الاتحاد السوفيتى، وعندما وجدوا أن هذا السيناريو ناجح جدًا، بدأوا يستخدمونه بصورة متعددة فى لبنان والعراق وسوريا واليمن وتونس ومصر، فهذه الجماعات الإرهابية سلاح خطير يستخدم ضدنا فهى تستخدم عن طريق «الحرب بالوكالة» فهم يمدون داعش بالأسلحة، وهذا سيناريو مقصود لتفتيت العالم العربى وفقًا لمخطط صهيونى منذ زمن بعيد جدًا، فالجيش العراقى كان من أقوى الجيوش العربية، لكن العراق الآن تحول إلى شبه دولة، وأشعر أن الآخر الأمريكى – بالذات- حضارات قوية لكنها بلا جذور، تشبه الإنسان اللقيط، ولذلك لديهم حقد تجاه أى حضارة عريقة، لأن هذه البلاد «مصر والعراق وسوريا» هى أساس الحضارة، فالآخر يريد أن يمحو الذاكرة التاريخية، وهذا مخطط خطير، وهذه الجماعات أيضاً تريد أن تمحو كل الحضارات السابقة على الإسلام، بالرغم من أن الإسلام حلقة من حلقات التواصل الحضارى بين كل الحضارات، فهذه الجماعات مارقة وإرهابية تستدعى أحط وأحقر ما فى الإنسان من حيوانية، لأن الإنسان به جانب يميل للخير وآخر للشر وهذا ما أكده «فرويد».
وفى كتاب لى بعنوان «ذهنية التكفير أو العنف المقدس» قلت إن هذه الجماعات لديها دافع الموت أقوى من دافع الحياة، لأنها تعشق ثقافة الموت وتكره الحياة.
هنا لا بد من استحضار الخطاب الفلسفى الذي يلعب دورا رائدا فى مواجهة الفكر المتشدد والمغلوط حول المفاهيم الإسلامية الرصينة.. فالفلسفة مهمة جدا، لأن أرقى نتاج للعقل البشرى هو الفلسفة والعلم، فالفلسفة تناقش كل شىء بشكل حر، وهى التنوير مثلما قال «كانط»، فالتنوير هو أنك تفكر بجرأة تجاه كل شىء لا تخاف، فمشكلتنا فى العالم العربى أننا لا نفكر ولا نستخدم العقل ولذلك ليس لدينا فلاسفة ولا علماء، والعلم مرتبط بالفلسفة بشكل كبير جدا، والفلسفة تحرر العقل من التعصب ومن الجهل ومن النظرة الضيقة، وتحرره من النظرة الذاتية المحدودة، ومن كافة الأوهام، والفلسفة هى فكر حر لأنه دائما ينتقد، فالفلسفة وظيفتها الأساسية هى النقد، نقد المسلمات، فمعظم الديانات تقوم على مسلمات، والمسلمات لها احترامها، لكنها يجب ألا تمتد إلى الواقع أو الحياة، فأنا شخصيا لست ضد الدين لأن الدين مكون رئيسى من شخصية الإنسان لكن عندما تتصحر وتتجمد شرايين الثقافة فى مجتمع، تجد أن الثقافة السائدة هى الثقافة الدينية، فالثقافة السائدة فى مجتمعنا فى الإعلام هى الانشغال بقضايا مثل زواج المسلمة من ذمى أو أجنبى وهى قضايا أقل من أن تشغل المجتمع بالكامل فالمجتمع متعطش لأى فكر مثير أو فضائحى، وهو مشغول حاليا بشيئين، تفاهات الثقافة، ثقافة كرة القدم والثقافة الدينية، وليس لديه ثقافة أصيلة، حتى مشكلات المثقفين تدور فى إطار الصراعات بين الجماعات الثقافية المختلفة من أجل مصالح وليس من أجل الفكر. – لذلك لايمكن لنظرية الوعى ان تأتى من غير الفلسفة ،لأن الوعى الدينى وعى تعصبى ومحدود، ففكرة الحوار بين الأديان فكرة وهمية، لأن المقدس به جانب لابد من التسليم به ولا يجوز النقاش فيه، فالحل أن يتم تحييد المقدس فى إطاره المقدس داخل المسجد أو الكنيسة أو المعبد فى اليهودية، حتى لا تختلط الأوراق، فلا تتحدث عن علم اجتماع أو علم نفس إسلامى، لأن العلم نسبى، وله مناهج وهناك موضوعية، فلا يجوز إقحامه فى الدين، مثل السياسة أيضاً، فأخطر شىء هو خلط السياسة بالدين، لأن الحاكم إذا أصبح رجل دين ورجل سياسة أصبح مؤلَّها وأصبح الخلاف معه نوعاً من الكفر -والعياذ بالله- وأصبح يتحدث باسم الإله، لكن لا يتحدث باسم الشعب، فالحل بسيط، مثلما قال المسيح «دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر» فيجب تحييد الجانب الدينى، فى التعليم، فى الفن، فى الثقافة، فى السياسة، فى المجتمع، فالإنسان لا يستطيع أن يستغنى عن الدين، لأن الدين جزء من مكون الإنسان، والإنسان يحتاج إلى هذا الجانب الذى يرضى الجانب الروحانى فيه، فالوعى الدينى وعى محدود يعتمد على العاطفة بشكل أساسى، لكن الوعى الفلسفى، وعى كونى، لأن الفلسفة تتعامل مع الإنسان كإنسان، والفلسفة ضد التعصب وامتلاك الحقيقة المطلقة، فالحقيقة فى الفلسفة نسبية، فالفلسفة تعتمد على التسامح، الحرية، على قبول الآخر، وتخاطب الإنسان فى كل زمان ومكان، أما الدين فله جانب تعصبى، وهذا لا يعيب الدين لأنه دين وعقيدة. لكن لا بد للخطاب الديني السائد ان يتجدد ولكنه لا يتجدد بمفرده اذ لابد من حدوث تغيير على مستوى الثقافة نفسها فالخطاب الدينى هو جزء من الثقافة ولن يتغير الخطاب الدينى بقرار سياسى، ولا من خلال إحداث بعض «الديكورات» أو بعض التغييرات فى لغة الخطاب لدرجة أننى أتصور أن البعض قد يفهم أن تغيير الخطاب الدينى هو تغيير خطبة الجمعة بالنسبة للمشايخ، فتغيير الخطاب الدينى مسألة حضارية لا يرتبط بغربلة النصوص، وتجديد الخطاب الدينى -من وجهة نظرى- يرتبط بتحديد وظيفته، أى تحديد وظيفة الدين نفسه فى المجتمع، وما دوره، وهل دور الدين سياسى أم أخلاقى أم تربوى أم روحانى؟، وتحديد دور رجل الدين أيضاً فى المجتمع، وما الحدود التى يتحرك بداخلها، كل هذه الأسئلة ترتبط بتجديد الخطاب الدينى، لكن أستطيع أن أقول إن مجتمعات العالم العربى تتغير من أعلى وليس من أسفل، بالرغم من أننى أقول إن تغيير الخطاب الدينى لا يتحدد بقرار سياسى، ولكن تحديد دور رجل الدين يتحدد بخطاب سياسى، وهناك فرق بين الاثنين، لأن تجديد الخطاب الدينى مسألة فكرية، أما تحديد وظيفة رجل الدين فهذا من الممكن أن يتغير بقرار سياسى، والدليل على ذلك أن السعودية بدأت تتغير، لأن الملك أراد لهذا البلد أن يتغير، وأن تتغير التقاليد، وبدأ نوع من التحديث فى المجتمع السعودى، أعتقد ستكون له ردود فعل إيجابية على العالم العربى كله، لأن السعودية تمثل سلطة دينية مركزية فى العالم فأى تغيير يحدث بها سيؤدى إلى تغييرات راديكالية أو جذرية فى العالم الإسلامى كله وليس العربى وحده. وأؤكد على فكرة أعتبرها جوهرية وهى اهمية الثقافة العامة، او المناخ العام، فالمناخ العام هو الذي يساعد على ظهور المتطرفين وكيف يفكر العقل الجمعى، وأقول أحياناً إن «الدواعش» ليست جماعة ولكنها بنية فكرية، فالمسألة هى الفكر وهو الأساس فى هذه القضية، فالثقافة والمناخ السائد هو الذى يخلق الإرهابى بشكل أساسى، وهناك عوامل مهمة جدا مثل العامل الاقتصادى وهو مهم للغاية، واليأس، وفقدان الأمل، فاليأس يجعل الإنسان يبحث عن حلول سحرية وعن مخلص، وعن حلول أقرب إلى المعجزات، وأيضاً التخلف وعدم وجود ثقافة أو فنون، وانحدار الفنون نفسها، وقد كتبت دراسة بعنوان «الانحطاط الثقافى» وربطت بين المتطرف دينيا والإرهابى وبين أغانى المهرجانات، فثقافة الهامش التى تتبنى «البانجو والمخدرات» هى منظومة واحدة فالبنية النفسية للإرهابى والبنية النفسية للشخص التافه واحدة، لأنه يفتش عن بطولة وعن دور له فى المجتمع.
د. حسن حماد
رائع فيلسوفنا الراقي