يُعتبر التسامح اليوم من أكثر المصطلحات تداولاً، حتى أصبح شعاراً للكثير من المنظمات والحكومات عبر العالم، وفي الآن نفسه، أُشبِع بدلالات جديدة قد تؤثر على معانيه الأصلية في اللغة، وكما ينبغي أن يكون؛ فقد جعله البعض مطلقاً، أي التسامح بدون حدود أو قيود، ونظر إليه البعض الآخر بوصفه استسلاماً وتنازلا، مما أفقد هذا المصطلح معانيه الأصلية، وتزداد الإشكالية تعقيداً، عندما يتم ربط التسامح بالأديان، وبالحوار بين الثقافات، ضمن نوع من التواصل الإنساني، الذي يراد به تقريب وجهات النظر المتباعدة، هذا الحوار الذي يقوده القادة والزعماء عبر العالم وخاصة هؤلاء الذين يملكون رصيداً كبيراً من الاحترام لدى أتباعهم ومريديهم، فكانت الحاجة ماسة لدبلوماسية مختلفة عن الدبلوماسيات التقليدية، ويتعلق الأمر بالدبلوماسية الروحية، أو الدينية، مع بعض الاختلاف عندما نُدقّق المعنى ونتأمّله بمنظار البحث العلمي و الأكاديمي.
لا يجب أن ننظر إلى التسامح على أنّه مِنّة وتنازل ومجاملة، إنه قبل كل شيء موقف إيجابي يتلخّص في الاعتراف بحريات الآخرين الأساسية، وإنّه لا حَقَّ لأيّ إنسان في فرض آرائه على غيره ، ومعنى ذلك أنَّ التسامح لا يلغي الفارق والاختلاف، كما لا يسعى لهيمنة أفكار معينة على حساب أخرى، ولكنه يؤسّس للعلاقات الإنسانية السليمة، من خلال احترام الاختيارات العقائدية والحضارية والثقافية، وفي الآن ذاته تحفيز التعارف بين الأمم والشعوب والتعاون فيما بينها وترسيخ التواصل، “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” ، فالعيش ضمن عالم مختلف هو الذي يصنع التميّز ويحقق نمط الوجود الحر والمستقرّ، ولا يقتضي التسامح محبةً أو ولاءً أو تبنّياً لمبادئ الآخرين وأديانهم، والتنازل عن الهوية، بقدر ما هو اعتراف بحق الآخر في الحياة وفي الوجود على سطح الأرض، والحق في التعبير عن مواقفه واختياراته، وبأنَّ خالق البشر أراد خلقه مختلفين، قال تعالى: “وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ”، فكيف يتجرأ الإنسان على الله، ويحاول محو الاختلاف، ودعوة الناس للائتلاف والتماهي والذوبان، بل وينهج في دعوته سبيل العنف والكراهية والاعتداء على قيمة الحياة ؟
انطلاقاً من رؤية علمية وأكاديمية، تعيد لمصطلحات التسامح والحوار دلالاتها الأصلية، أنجزتُ دراسة تؤصّل للدبلوماسية الروحية في أبعادها المختلفة وخاصة ما له صلة بالتسامح والحوار بين الأديان، ويتعلق الأمر بكتاب: التسامح بين الأديان من منظور الديبلوماسية الروحية، والذي صدر ضمن منشورات جمعية النجاح للتنمية الاجتماعية بمدينة العيون الساقية الحمراء، في طبعته الأولى منذ عام 2019، ولكن حدث جائحة كورونا كان أكبر من الأحداث الثقافية، فتأخر التعريف بهذا العمل البحثي الجديد إلى اليوم، وهو الكتاب الحائز جائزة الشيخ سيدي المختار الكنتي للثقافة العالمة، وقد تسلّم الجائزة مؤلف الكتاب الأكاديمي المغربي الأستاذ الدكتور خالد التوزاني، رئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي المعروف اختصاراً بكلمة (مساق)، وذلك ضمن فعاليات ملتقى عيون الأدب العربي الذي تنظمه جمعية النجاح للتنمية الاجتماعية، بمدينة العيون الساقية الحمراء الصحراء المغربية.
يروم هذا الكتاب عَبْرَ بحث دقيق في العرفانيات الدينية، إثبات فكرة مفادها: أنَّ روحانيةَ الأديان تَمْلِكُ القدرةَ على زرع بذرة التَّسَامُح في النُّفوس، وخَلقِ فُرَصِ التَّواصُلِ الرُّوحي بين بني البَشَر، وفرضِ احترام قَدَاسَة الإنسان، انطلاقاً من رؤيةٍ تتجاوزُ ظاهرَ الأديانِ إلى جوهرها الأوَّل وهو الإحسان إلى الخَلَق، والنَّظر إليه بوصفه شَريكاً في الحَياة وليسَ مُنافِساً أو عَدُوّاً. حيث يقدّم هذا الكتاب مُقترحاتٍ عمليَّةٍ لنَقْلِ التسامح من التَّنظير إلى الممارسة، ومِنْ سُلْطَةِ الدَّليلِ والبُرهان إلى سُلطةِ المحَبَّة والعِرفان، بِمَا يُؤسِّسُ لتسامحٍ حقيقِيّ بينَ أهْلِ الديانات.
وهذهِ الرُّؤيةُ نطلِقُ عليها “دِبلوماسية التسامح”، تَنْهَلُ مِن رُوحِ الدِّياناتِ منهجها القائم على تزكيةِ النُّفوسِ وتأليف القُلوب، وهي دِبلوماسيةٌ لا ترومُ الإقناع، أو دفع الآخر للتَّخَلِّي عَنْ مُعتقداتِهِ ومَواقِفِهِ، ولا حتَّى التَّبشير بنمطٍ مُعَيَّنٍ مِنَ التَّدَيُّن والسّلوك، بقدرِ ما تَسعى لتأكيدِ دَوْر التَّزكية في تنقيةِ العلاقاتِ الإنسانية مِنَ التَّوتُّر والقَلق ومِنْ سُلْطَةِ الذَّات ونوازِع الاسْتِعْلاء على الغَير أو اِدِّعاء امتلاك الحَقَّ أو المعرفة و التفوّق، وبذلك يمكن أن يُشَكِّلُ هذا النّمط من الدِّبلوماسية مدخلاً للوقايةِ مِنَ التَّطرُّف والعُنف، ببناءِ تسامح دينيّ وأخلاقي وسلوكي متين وعلى هُدى وبصيرة، يرى في الإنسان، أينما كان، وحيثما وُجد، بُنيان الله، لا يَجوزُ انتهاكُ حرمتِهِ أو الإساءَة إليه، بل المطلوب دوام الإحسان إليه.
لماذا لم تنجَحْ دَعَواتُ التَّقريبِ بين الأديان، ولمْ تُفلِحْ الدِّبلوماسيات الرّسمية والموزاية في تحقيقِ تَسَامُحٍ حقيقيّ بين أهلِ الديانات، وفرض تعايشٍ فاعل ومؤثّر بين مختلف الفئات المتباينة في المعتقد والملّة؟ ما العوائقُ التي تُؤَخِّرُ فَرْضَ التّسامح العالَمِيّ وحِماية أمنِ النُّفوس والأرواح التي تُزْهَقُ في كلِّ لَحْظَةٍ؟
تلكم بعض التساؤلات التي حاولنا مقاربتها، انطلاقاً من مرجعية عرفانية صوفية وتربوية وأخلاقية أصيلة، تنهل من المشترك الإنساني كثيراً من حججها وبراهينها، نظراً لأهمية الموضوع، حيث إنَّ قيمة التَّسامح ستكون أكثر إلحاحاً في المستقبل، ففي عصرنا تجري أحداث تطرّف بمسمَّيات عِدَّة، وبتوظيفٍ لعدد من الإيديولوجيات والأفكار، التي تروم فرض الهيمنة وتحقيق السّيطرة على الأفراد والشُّعوب، وباتَ الأمن العالَمي في مهبِّ الرّيح مع انتشار بُقَعِ التَّوتُّر واستمرار النّزاعات وتزايد وتيرة الحُروب على ضِفاف العديد مِن حُدود الدّول ومناطق العُبور، وهي أحداثٌ تجري في كثير من الحالات باسم الدّين، وباسم الحقّ، وترفع شعارات برّاقة، فالعُنف باسم الله، من أخطر ما يهدِّد عالمنا المعاصر، لأنَّ المتطرّف الدِّينيّ يرى نفسه صاحب الحقّ المطلق في تمثيل الله وتنفيذ شرع الله عُنوة، ومثل هذا النوع يصعب إقناعه بشيء اسمه التسامح، ومن هنا كانت الحاجة ماسّة لتأصيل دبلوماسية تسامحٍ عِرفانيّ، ينهض بقيمة التسامح.
والمؤكد أنَّ غياب التسامح، قد يقود لحروب عالمية جديدة تهدم بُنيان الحضارة المعاصرة، وتَقضي على المدَنية وتشلّ حركة التَّواصل، “فالكراهية والتَّعصّب، يستهدفان أوّلاً، الجُسور والقناطر والمعابر، فهي أوّلُ ضحايا الحُروب والنِّزاعات، ومعلومٌ دورها وأهميتها في الوصل والتَّفاعل بين جهات ومُكوّنات أيّ مجتمع أو دولة، وما يحدث أنها تستهدف قبل ذلك ومعه المدارك والهويات الجمعية والروابط المشتركة”، ولذلك كانت الأديان – في أصلها وجوهرها- سبيلاً لتحقيقِ انعتاق الإنسان من سيطرة أخيه الإنسان، ليخضع المرء لخالقه وحده، فيحقّق الخلاص المأمول، والحُرّية المنشودة، وينخرط في إعمار الأرض وصناعة الحضارة، غيرَ أنَّ بعض أتباع الدِّيانات سَعوا في الاتجاه المضادّ، فبدل إشاعة روح التسامح باعتباره مظهراً من مظاهر احترام قداسة الإنسان، نراهم يصمّون آذانهم، ويمنعون الآخر من ممارسة حريته في التفكير، وخاصة ما يرتبط باختيار العقيدة التي يراها مناسبة له، إلى جانب توظيف الكثيرين للدِّين في المجالات السياسية والاقتصادية، لأن الجماهير تنجذب بسبب عاطفتها وانفعالها أمام الخطاب الدِّيني، مما خَلق بيئة عالمية مُشَوَّهة على مستوى التَّدين وحوار الثقافات والأديان، وهذا الوضع الشاذ أثمر قيماً مخالفة للتسامح وضد الإنسانية.
قد تشتركُ دبلوماسية التسامح في بُعدها العِرفاني مع كثيرٍ من الفلسفات الإنسانية والقيم السَّامية العليا، كما قد تتقاطع مع ما هو موجود في بعض الديانات، وهذا أمر بديهيّ ما دامت هذه الدِّبلوماسية خِطاباً موجهاً للأرواح والضَّمائر وللنُّفوس السّليمة في فطرتها، تسعى لاحترام قداسة الإنسان، ومَدّ جُسور الإخاء في الله، وتأليف القُلوب، فهذه الدّبلوماسية لا تتأسّس على أيّ مصلحة دنيوية مباشرة، كما لا تسعى لفرض أيّ شيء، بل هي نموذج حياة ورؤية للكون والوجود، تقدّم نفسها وفق منظور عِرفانيّ يرى في الإنسان مركز الكون، تطوف حوله الموجودات ويطوف حولها، في حركة دائرية كلما اتَّسع مُحيطها زاد عُمْقُ المحبَّة التي يكنّها العارفون بالله لكلِّ مخلوقات الله، وضمن هذه الرؤية يُصبح الحديث عن التسامح حامِلاً كلّ هذه القيم والمعاني والدلالات ومنتجاً لقيم أخرى تُسْهِمُ في حضارة الإنسان.
إنَّ دبلوماسية التَّسامح بمنظور عِرفانيّ تسعى لتأسِيس تعارف روحيّ يحترم الاختلاف، وليس من غايات هذا التَّعارف الإقناع أو دفع الآخر للتخلِّي عن معتقداته ومواقفه، لأنَّ المنظور العِرفانيّ في التَّواصل ينطلق من بعض المسلَّمات، منها: أنَّ هداية الناس، ليست من اختصاص البشر، وإنَّما هي من تفضّل الله على مَنْ يشاء من عباده، ومنها أيضاً: أنَّ الصَّواب أو الخطأ أو السَّير على الهُدى لا يعلمه إلا الله، فالحقيقة المطلقة لا يملكها إلا خالق البشر، وهذه المنطلقات العَقدية يستمدها أهل العِرفان الصُّوفي من القرآن الكريم باعتباره روح الكون ومعراج التعرّف إلى الله، حيث يقول الله تعالى: “إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ”، ويترتب على هذه الحقيقة الكونية أمور كبيرة في حياة الإنسان، وخاصّة في تواصله مع ذاته ومع الآخرين، وفي رؤيته للحياة والكون والوجود وما بعد الحياة والموت، تلك بعض معاني التَّسامح ، وفي كتاب: التسامح بين الأديان من منظور الدبلوماسية الروحية، تجليات أخرى ونماذج تعزّز هذا الفهم.
د. خالد التوزاني: أكاديمي وباحث من المغرب. رئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي – مساق- touzani79@hotmail.com