د. فتحي التريكي*: ديمقراطية النضال والتآنس ..

أصبح المفكّرون في كثير من البلدان وخاصة العربيّة منها يتجادلون حول المعنى الدقيق للديمقراطية وما تستوجبه من شروط وآليات وما تنتجه من مستتبعات ومخرجات. ونحن نعيش في تونس الآن وضعيّات معقّدة أنتجتها ممارسات معيّنة للديمقراطيّة تحاول أن تخضعها إلى دكتاتوريّة الأغلبيّة والتي سمّيتها في أبحاثي “الدكتاتوريّة الخفيّة”. والواقع أنّ الأفكار والآراء والمواقف قد تنوّعت حتى أنّ البعض أصبح يردّد أن الديمقراطيّة ذات معاني متعددة حيث لا يمكننا إيجاد تحديد وحيد وموحد ومقبول لها ولوظائفها. لا ننكر أن النسبية قد تلعب دورها في تحديد الديمقراطية التي تصبو إلى أن تكون كونيّة في معناها نظرا وتطبيقا.

والحقيقة أن الكثير من فلاسفة العصر ومفكريه قد استأنفوا طرح إشكاليّة الديمقراطية من جديد لأنها كما سنرى قد انحصرت في صبغتها الإجرائية القانونية في كثير من البلدان الغربية ففقدت بذلك كنهها وغايتها لتصبح آلة سلطة قد تقود إلى نوع من الكليانية تلبس ثوبا ديمقراطيا مزيفا.

زد على ذلك أن عولمة الحياة السياسية قد أنتجت نماذج متعددة للحكم تزعم أنها تعتمد الحرية وحقوق الإنسان. ليس من السّهل معالجة إشكالية الديمقراطية في هذا الظرف التونسي والعربي والعالمي المتقلب والموسوم بالحجر الصحّي والسياسي وبالعنف المتواصل جرّاء التحولات الكبرى التي نعيشها الآن سياسة واجتماعا وثقافة ولا يمكن في رأيي أن تكون هذه المعالجة دقيقة وصائبة إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار في الآن نفسه الثورات والمتغيرات في دول العالم وخاصّة العالم العربي وحركية التثاقف الحالية التي بعد الثورة التكنولوجية المهيمنة أصبحت تحدد نمط حياتنا اليومية. ونعني بالتثاقف كما بيّنا في أبحاثنا السابقة تلاقح الأفكار والعادات والتقاليد والرموز والعقائد المتواجدة في عالمنا من خلال قنوات التواصل المتعددة بين البشر في كل أنحاء المعمورة. ولعلنا نستطيع التأكيد على الحلّ الذي قدّمه الفيلسوف الهندي أمرتيا سان  الحاصل على جائزة نوبل  للاقتصاد سنة 1998 عن أبحاثه المتطورة في اقتصاديات الرفاهة فهو يحاول إيجاد نمط للديمقراطية متأصلا في الثقافات المحلية حتى لا تكون هناك ردّة فعل متكررة ضد معطياتها الأساسية. لقد أبرز أمرتيا سان في كتابه “ديمقراطيّة الآخرين”، أنّ الدّيمقراطية في نشاطها وحركيّتها الاجتماعية، من حيث هي تعبير عن الفضاء العمومي، ليست ملكا للغرب ولا ترتبط بحضارة معينة دون أخرى، فلقد وُجدت دائما بأشكال مختلفة في العديد من الثقافات الأخرى غير الثقافة الغربية، على غرار الثقافة الهندية مثلا أو الثقافة الإسلامية أو كذلك الثقافة الصينيّة، لأنّ الديمقراطية، كما يؤكّد على ذلك فيلسوفنا هي تقليد شرقي قديم يقوم على التسامح والحرية، لذلك هناك طرق مختلفة لممارسة الدّيمقراطية يجب أن نأخذها بعين الاعتبار.

إنّني لست على خلاف كبير مع وجهة نظر أمرتيا سان، ولكنّني أعتقد، في ما يخصّ هذه النقطة، أنه إذا ما قبلنا بهذه النظرية بحذافيرها فإننا قد نقبل كلّ أنماط الأنظمة على أنها ديمقراطية، بما أنّها كلها تقريبا تعتبر نفسها، بطريقة أو بأخرى، “ديمقراطية محليّة”. ومع ذلك أعتقد أنّه من الضروري تعميم الممارسة الدّيمقراطية، بشرط أن لا يتم ذلك بفرض نموذج غربي ينصّب نفسه نموذجا كونيا ووحيدا عن طريق القنابل والمذابح أحيانا وعن طريق غطرسة الديبلوماسية أحيانا أخرى . وفي قناعتي، من الذكاء والجدوى أن نعمّم الدّيمقراطية بواسطة فلسفة أطلقت عليها تسمية “فلسفة التّآنس”، وهي فلسفة تثاقفية مؤسسة على المبادئ المشتركة بين كلّ الثقافات: مثل الغيرية ومستتبعها التّسامح، والفردية ومستتبعها الحريّة ثمّ التضامن ومستتبعه المساواة، وهكذا فإنّ الشكل الإجرائي للديمقراطية أي تلك التقنية التي تصنع القرار أو الاختيار الذي يحترمه ويطبّقه كلّ عضو في المجتمع مهما كانت وجهة نظره، هو شكل غير كاف للوصول إلى المرحلة الكونية، لأنّ هذا الشكل الإجرائي يرفض كلّ تدخّل آخر سواء كان إيديولوجيّا أو إيتيقيا و أخلاقيا لا محالة يكون الاقتراع العام والانتخاب والتصويت الدّيمقراطي، من الوسائل الأكثر جدوى لحماية الذات والمجتمع من خطر الحكم المطلق ومن العوائق التي تمنع عجلة الدّولة من الدّوران أي تلك العوائق التي تضعها مجموعات ذات مصالح مالية اقتصادية أو إيديولوجية أو دينية، وهي من ثمّة تحمي الحريّة في معناها الأساسي الذي يجب أن نذكّر به وهو غياب الضغط والإكراه. ولكنّ هذه الوسائل قد يتمّ إخضاعها إلى إرادة أغلبية برلمانيّة تقوم على مصالح مؤقّتة مثلما يقع حاليا في تونس عندما وجدت مصالح حزب ذي مرجعيّة دينيّة وحزب ذي مصالح ماليّة إمكانيّة إخضاع السلطة التنفيذيّة إلى مآربها وغاياتها. ولأجل ذلك، فإنّ هذه الوسائل يجب طبعا ممارستها في إطار بناء يحدّد القواعد الإجرائية التي وفقها تتّخذ القرارات العامّة ويضمن ممارسة الحريّات السياسية الأساسيّة.

ولكننا لا بد من التأكيد في الآن نفسه على بعض مساوئ الديمقراطية الإجرائية ومن بينها احتمال إفراغ نظرية الدّيمقراطية من محتواها الحقيقي بما أنّ هناك إمكانية اختزالها في مجرّد عملية إجرائية تُخضع النّخب السياسية إلى مراقبة صارمة، وهذه الحالة من شأنها أن تثير الصّراع المتواصل من أجل السّلطة. معنى ذلك أنّ الدّيمقراطية لا تتعلّق فقط بحريّة كلّ شخص. يجب عليها أن تهتمّ أيضا بالمشترك الذي يعبّر عن نفسه بعدّة طرق وبواسطة مؤسّسات مختلفة. فالتّوازن بين المشترك والخاص هو الذي يمنح للدّيمقراطية حضورا فاعلا وجدوى حقيقية. والدّيمقراطية الفاعلة تنخرط بداهة في روح الدّيمقراطية الإجرائية، ولكنّها تعترف للشّعب، أي للمشترك بأن يشغل الفضاء العمومي ويستخدم وسائل أخرى للتّعبير عن رأيه.

والهدف الأولي والمهم من إرساء هذه الديمقراطية الناشطة والفاعلة أي ديمقراطية النضال المتواصل يكمن في الكرامة التي كانت المحور الأساسي الذي قامت عليه الثورة التونسية وأعني تنميّة المؤهّلات الطبيعة الخاصة بالإنسان من حيث هو »مخلوق متعقّل« بثقافة ابتكاراته وإبداعاته، ومن حيث هو حرّ لا لذاته فقط بل وأيضا داخل المجتمع ضمن علاقاته المختلفة مع الغير وتحت سلطة القوانين، ومن حيث أنه يصبو إلى السّعادة والرفاهية وهو صانع سعادته بتأسيسها على مبادئ الخير الكوني الأسمى.

ليس ثمة شك أن الهدف الأسمى للديمقراطية كما تصورناها يتمثل في محاولة تحقيق شروط العيش المشترك في كنف الكرامة والاحترام والمحبة. فلا بدّ من تأكيد حركيّة هذه التصورات للديمقراطية وصيرورتها لأنّها تآنسية جوهرا واستمراريّة أصلا تتّسم بتداول الإحداثيات والمستجدات في المعارف والممارسات. وقد لا نبالغ كثيرا إذا ما قمنا بالتعمق في الديمقراطية التآنسية عندما نزعم أن هذا النوع من الحكم الديمقراطي هو الذي يمكّن ثقافتنا العربية والإسلامية أن تقترحه من حيث هو ديمقراطية محلية حسب تعبير أمرتيا سان ولكنه سيكون حتما أفقا كونيا لكل ديمقراطية حقيقية ممكنة.

ويمكننا هنا أن نقدّم مثالا على الديمقراطيّة النّضالية. في جانفي2014 عاشت تونس انتفاضة شعبية هائلة عمت تقريبا كل المناطق الداخلية للبلاد احتجاجا على ما جاء في ميزانية الدولة لتلك السنة من زيادات غير مقبولة في الضرائب والمعاليم حتى أن البعض قد اعتبرها الثورة الثانية التي قد تطيح بالحكم البورجوازي الذي اعتمد في حله للأزمة المالية الخانقة على إضعاف القدرة الشرائية للطبقات الكادحة والمتوسطة. ما يجب أن نؤكد عليه هو أن هذه الميزانية قد ناقشها النواب بصفة ديمقراطية في المجلس التأسيسي وتم التصويت عليها بأغلبية الأصوات رغم المعارضة الشديدة من قبل قوى اليسار التي تنبأت بتلك الانتفاضة وما صاحبها من فوضى. وكان الحزب الحاكم آنذاك قد دافع بشراسة عن هذه الميزانية ولكنه بواسطة رئيس الحكومة المنتمي إليه تراجع يوم 9 جانفي صباحا عن هذا القرار غير الشعبي والذي ورد في قانون المالية المذكور وتعلق بالزيادة في المعاليم الإضافية الموظفة على عربات النقل الفلاحي وفي إجبار الفلاحين على الحصول على معرّف جبائي لممارسة نشاطهم، وذلك قصد التهدئة وعودة النظام في الجهات الفلاحية والداخلية.

– [ ] وفي أواخر شهر جانفي 2021 قامت في تونس بقراها ومدنها انتفاضات شبابيّة تطالب بتطبيق شعارات الثورة التونسيّة ونعني الشغل والحرّية والكرامة ولكنّ هذه الأغلبيّة المتكونة من أصحاب المال والإسلام السياسي قامت بقمعها قمعا لم تشهده تونس منذ الثورة تعنيفا وضربا وتعذيبا وذلك حفاظا على سياستهم الإغتصابيّة التي تعتمد دكتاتوريّة الأغلبيّة وتبرّرها بديمقراطيّة مبتورة. وقد تصبح هذه الدكتاتوريّة هي المفسّرة الوحيدة للدستور. ومن هنا فصاعدا ستشهد تونس دكتاتوريّة خفيّة تبدأ بتقزيم المد الديمقراطي المتمثّل في التظاهر الشعبي وتحاول إفراغ نظرية الدّيمقراطية من محتواها الحقيقي واختزالها في مجرّد عملية إجرائية تضمن لها الهيمنة المطلقة – [ ] ماذا نستخلص من هذه الأحداث الهامة ؟

ليس ثمة شك أن قبول الميزانية كان ديمقراطيا بل يكرس نوعا من الديمقراطية كنا نحتاج إليه وهو النمط الإجرائي الذي يعطي للجميع حرية التعبير والنقد وينتهي بقرار يتحصل على أغلبية الأصوات. كذلك ليس ثمّة شكّ أن الأغلبيّة الحاليّة المتكوّنة من الإسلاميين وممثّلي البورجوازيّة الكمبرادوريّة قد أفرزتها الديمقراطيّة بواسطة قواعدها الإجرائيّة. ولكن ما حدث يبيّن ممّا لا يدعو لأدنى شك أن هذا النوع من الديمقراطية غير كاف ولا يمكن أن يؤدي إلى عدالة اجتماعية هي في الحقيقة قصد كلّ نظام ديمقراطي ثوري.

– [ ] لذلك كانت هذه اللخبطة في إقرار ميزانية والتراجع عن بعض بنودها بعد أسبوع وهذه الدكتاتوريّة الخفيّة لأغلبيّة مصلحيّة هي السبب الرئيسي في تلك الضغوطات الشعبية الواسعة وهي على كلّ حال سياسية أفرزتها هذه النوعيّة من الديمقراطيّة ولكنها دفعت بمئات الآلاف من التونسيين إلى الاحتجاج والخروج مرات عديدة إلى الشوارع وما صاحب ذلك من فوضى وحرق ودماء وخسائر متنوعة كان يمكن تجنبها لو استمعت الحكومات إلى الانتقادات الصادرة عن المنظمات الوطنية ومختلف مكوّنات المجتمع المدني.

– [ ] هل معنى ذلك أن هناك ديمقراطية الأغلبيّة التي كثيرا ما تنزلق نحو الغطرسة والاستبداد من ناحية وديمقراطية الشارع التي تخلق الفوضى ولعلها قد تفتح المجال للتعفن والانزلاق نحو العنف العشوائي والإرهاب؟

– [ ] حتّى نحاول الإجابة عن هذا الإشكال المعقّد لا بد من الرجوع إلى مفهوم الديمقراطية في حدّ ذاته لمعالجته وضبط أركانه وآلياته. عندما أكدنا على نسبية الديمقراطية فإننا كنا بصدد البحث في نمط تكوّنها وفي تمظهراتها المختلفة داخل الحضارات المتنوّعة. ولكنّنا إذا ما أردنا التفكير في نمط فهمها وفي آفاقها المنشودة فلابد من التأكيد على كونيّتها الواضحة باعتبارها تتطلب نفس الأسس ونفس الآليات مهما اختلفت الحضارات والثقافات. فالدّيمقراطية هي أساسا نمط تدبير لشؤون الدولة والمجتمع يقوم على العقل والحرية ومشاركة الجميع في الشأن العام والتداول على السلطة دون إقصاء ودون تعسّف.

– [ ] فللديمقراطية أسس ترتكز عليها وثقافة تنشر معالمها بين الناس وآليات تستعملها لتدبير الشأن العام. وبإيجاز كبير تتأسّس الديمقراطية من ناحية على العقل والتعقل ضمن التحولات العلمية والتكنولوجية التي تجعلها مواكبة للطموحات المصيرية للعصر ومن ناحية أخرى على الحرية والحريات التي تقوم في مجملها على لائحة حقوق الإنسان الكونية. فالتفاعل بين العقل والحرية يضبط لنا نسقيّة القانون المؤدّية إلى المؤسّسات والضّامنة للمواطنة. وللديمقراطية ثقافة تقوم على احترام الآخر مهما كانت آراؤه ونمط عيشه واختياراته الوجودية وربط العلاقة معه بالحوار والمداولة والتسامح وعدم استعمال العنف والإقصاء وتغليب القانون في كل المجالات.

أما الآليات فهي تقوم أولا على المشاركة الفعلية في القرارات بواسطة التمثيل الديمقراطي والتصويت والانتخابات والتداول السلمي على الحكم وهي ثانيا حرية الرأي والعمل والإبداع والاستقلالية للفرد وللسّلط المنظمة للبلاد كالتشريعية والقضائية والتنفيذية والإعلامية. وهي ثالثا الحراك الاجتماعي المتمثل في تكوين الأحزاب والمنظمات وفي الاجتماعات والمظاهرات والإعتصامات والإضرابات وكل الوسائل القانونية المشروعة للاحتجاج وتبليغ صوت المواطنين وهي رابعا وأخيرا العدالة الاجتماعية التي لا تفرق بين حقوق المواطنين فتضمن المساواة الكاملة للرجال والنساء في الحقوق والواجبات.

– [ ] تلك هي الديمقراطية في كنهها ولا يمكن تجزئتها وأخذ البعض من أجزائها وترك البقية جانبا. فقد اعتبر نظام بن علي في تونس نفسه نظاما ديمقراطيا باعتبار أنه ضمن تعدد الأحزاب صوريا أحيانا وحقيقيا أحيانا أخرى ولكنّه ضيّق الخناق على حرية التعبير وزوّر الانتخابات وأقصى المعارضين الحقيقيين وسجنهم وعذبهم. لذلك كانت ديمقراطيته إسمية صورية جزئية يستعملها النظام الدكتاتوري في كثير من بلدان العالم لتلميع صورته. بحانب هذه الديمقراطيّة الإسميّة هناك ديمقراطيات إجرائية فقط. هي ديمقراطيات حقيقية تضمن حرية التعبير والتنظيم والتصويت ولكنها تُغرق النسق السلطوي في القانونية والإجرائيات المعقدة وقد يضمحل بذلك التعارض الحقيقي والنقد الجذري لينحصر العمل السياسي في قطبين رئيسيين متماثلين في الأغراض والمقاصد مع اختلافات غير نوعية. ولعل الديمقراطيات الغربية بدأت تأخذ هذا الاتجاه منذ الستينات من القرن الماضي لتقصف بالتعارض الحقيقي مثل ما فعلت بانتفاضة 1968 بباريس. – [ ] وما تحاول الآن هذه البلدان الغربية هو أن تفرض هذا النوع المجزأ للديمقراطية على أنظمة بلدان ما يسمى بالربيع العربي وذلك حتى يمكن السيطرة على غضب الشعوب العربية وطموحاتها.

– [ ] فالجماهير الشعبية التي نزلت مرة أخرى إلى الشوارع في تونس وبعض البلدان العربيّة كمصر والجزائرر بيّنت أنّ الديمقراطية لا تتجزأ وأنها ثورية في أساسها وفي ثقافتها وآلياتها. فبنضالها أسقطت قرارات الديمقراطية الإجرائية المجزأة وأعطتها صبغة جديدة نستطيع تسميتها بالديمقراطية النضالية أو الديمقراطيّة النشيطة. – [ ] فمن تعمق نوعا ما في المسار الثوري في تونس سيلاحظ حتما أن كل المكاسب التي تحصّل عليها الشعب هي حصيلة هذه الديمقراطية النضالية النشيطة التي كانت تتصدى دائما لجنوح الأغلبية البرلمانية للغطرسة وللاستبداد مثل ما بيّناه أعلاه أو ما حدث في صائفة سنة 2013 عندما اعتصم نواب المعارضة مع مئات الآلاف من المواطنين أمام المجلس التأسيسي لمدة تفوق الشهر لترضخ الأغلبية في الأخير وتفتح باب التحاور لكتابة دستور يمثل أغلبيّة شرائح الشعب التونسي وإني لأزعم أن الدستور التونسي الجديد هو نتيجة هذه الديمقراطية النضالية النشيطة بامتياز. فالديمقراطيّة النشيطة التي تخضع للقواعد الإجرائيّة ولمقاصد الدستور ولكنّها تسمح للشعب أن ينتفض كلّما أراد دون ضرر ولكن أيضا دون تعذيب وتعنيف هي ديمقراطيّة التآنس والنضال.

* د . فتحي التريكي: مفكر وفيلسوف تونسي حصل على دكتوراه في الفلسفة السياسية من جامعة السوربون بباريس وعلى دكتوراه الدولة في الفلسفة من كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس. ويعمل استاذ كرسي اليونيسكو للفلسفة بجامعة تونس.