بقلم د. محمد الناصر بن عرب
لما قمت بزيارة مراكش شدني التشابه الكبير الموجود بين العروض التي تقام بفضاء ساحة جامع الفناء بمراكش بالمغرب الأقصى وما كنت أشاهده سابقا بساحة باب الجبلي من ترفيه وفرجة بصفاقس. وللأسف الشديد تغير الوضع بساحة باب الجبلي التي أصبحت محطة لحافلات النقل العمومي بينما ما زالت ساحة جامع الفناء القلب النابض ونقطة التقاء بمراكش، تستقطب الزوار من كل أنحاء المملكة المغربية ومن أنحاء العالم للاستمتاع بشتى أنواع الفرجة لما يقدمه مروضو الأفاعي والقرود ورواة القصص والأحاجي والفكاهيين والموسيقيين والمغنيين والرياضيين الذين يتحلقون حول أبطالها رواد يُذَكُّون أجواء الحماس بالتصفيق وعبارات التشجيع والثناء وزغاريد النساء. وظلت هذه الساحة مركز إشعاع خلال العصور المختلفة حيث كانت مكان استعراض الجيوش وكتائب معارك التوحيد وحروب السيادة لما كانت مراكش عاصمة للمرابطين (448-541 هج/ 1056-1147م.) وعاصمة للموحدين (515-674هج/1121-1275م.) والسعديين (916-1069هج/1510-1658م.)
ثم أصبحت الساحة فضاء للتجمعات الشعبية حيث برز فيها رواة الحكايات والقصص والاستعراضات الرياضية والفكاهية والتمثيلية وذاكرة للتراث اللامادي للشعب المغربي وأدرجتها اليونسكو على لائحة التراث اللامادي الشفهي سنة 2001.
أما باب الجبلي بمدينة صفاقس ( 235هج/ 849 م.) فهو يفتح وسط السور الشمالي الذي كان سابقا يفتح على فندق المحصولات أين كانت تباع فيه محصولات صفاقس وضواحيها مثل الحبوب والتوابل والصوف واللوز والفستق والزيتون. كما خُصِّص هذا السوق لبيع الإبل والأحمرة والغنم والبقر وانتقل جزء منه إلى سوق الصوف والجلود شرقا. وكانت تلتقي تحت السور الشمالي القافلات التي تغدو وتروح على صفاقس وتتسع الساحة إلى مكان يسمى “إذرَيَّع ” كلاب نسبة للكلاب السائبة الضالة أو لِقُطَّاع الطريق الذي يُطْلق عليهم “كلاب السوق” حيث يقام سوق النحاس وبيع الحصير.
ونذكر أن المقاومة الصفاقسية انتصرت على المحتل النرماني الصليبي الصقلي سنة 542 هج / 1148م.أمام باب الجبلي..
بعد ثمان سنوات من الاحتلال الغاشم، ثار أهل صفاقس ونظموا مقاومة للتحرير بعدما اختطف النرمان أبا الحسن الفرياني إلى صقلية كرهينة وهددوا بقتله إذا ثارت المدينة وبقي ابنه عمر الفرياني متصرفا في أعمال المدينة وتواصل المقاومة.
تقرر إرسال السقاءين للمنازل لإحصاء عدد الرجال القادرين على حمل السلاح ضد المستعمر النرماني الصقلي. يطلب الساقي من أصحاب المنازل أن يمدوه من الفول بقدر ما عندهم من الرجال ثم جمعوا ما تحصل وعدوه وعرفوا أن عدد الرجال كان كافيا لمقاومة جيش النرمان ووقع توزيع السلاح عليهم. وفي ليلة عيد رأس السنة الميلادية 1156. تم تخطيط محكم للقضاء على النرمان. وضعوا كل الفول في قدور على النار وقامت جوقات موسيقية بالعزف والغناء أمام باب الجبلي وأتت المقاومة ببقر ضاحية صفاقس وقامت بتزيينها بالأزهار والمصوغات ودعت قائد جيش النرمان وعساكره للمشاركة في هذا الحفل البهيج بعدما وقع الاتفاق على كل من يحمل السلاح الذي يدعى “الزاغة” أن يكون بجانب كل جندي نرماني وعند سماع كلمة “نار يا غدار” يقوم الصفاقسي بطعن النرماني. وانتصرت مقاومة صفاقس على النرمان بباب الجبلي بهذا التخطيط المحكم. وفي كل سنة في شهر يناير يحتفل الصفاقسيون بذكرى هذا الانتصار بما يسمى بالحاجوجة حيث يتناولون الفول المطهي مع شيء من الزبيب والتين المجفف والخروب واليانسون والحلبة ويدعى هذا الطبق المريسة وكذلك الكسكس المطبوخ بالبخار الذي يُسَقَّى بخليط من التمر المقلى في الزيت وقليل من عود القرنفل والقرفة وشوش الورد ويدعى هذا الطبق الرفيسة.
وكما هو الحال في مراكش، كانت ساحة باب الجبلي القلب النابض لمدينة صفاقس العتيقة منذ تأسيسها ومسرحا عامرا بأصناف الفرجة التي تنطلق في الساعات الأولى من الصباح كل يوم بحلقات الحكواتيين الذين يغتنمون أجواء الهدوء قبل أن تعج الساحة بالصخب والحركة ودق الطبول وارتفاع أصوات الموسيقى. ثم يلتف الجمهور شيئا فشيئا حول حلقات رواة القصص والأحاجي والحكواتيين والعرافين أو الفكاهيين مثل “الفِلْو” و”النُّوف” والألعاب البهلوانية ومشاهدة العروض الموسيقية التقليدية بالدف والطبل والمزمار وكان لعازف الناي شأن عظيم. وما هو مشوق للغاية ذلك الحكواتي الذي يسرد على الجمهور القصة أو حكاية ألف ليلة وليلة فتعيش القصة كأنما تراها أمامك رأي عينيك. وفي حلقة أخرى يوجد مُرَوِّضُ الثعابين الذي يعزف بروحه موسيقاه فتتمايل الثعابين أمامه برقة على نغمات الناي الرقراقة التي لا تسمعها لكنها تقرؤها في جلسته الخاشعة، تطأطئ رأسها ثم ترفعها وتدور يمينا وشمالا ويخيل لك أن هذه الثعابين إنما خلقت وديعة لا تضر الانسان. وترى حاملي القرود في مداعبة وهي تقلد الحركات وتشد انتباه المتفرجين. كما ترى من يعرض على الأرض الأعشاب والنباتات لعلاج أمراض مختلفة. وهنالك من يعرض زهم النعام، دهن يستعمل لعلاج الأوجاع الناتجة عن المفاصل والغضاريف والالتهابات التي تصيب العمود الفقري كما أنه مفيد جدا للجلد والشعر.
وبالنسبة لكل من يعاني من ألم في الأسنان يوجد شخص مجتذب أسنان لعلاج الناس. يقوم ممثلو ساحة باب الجبلي بتشكيل حلقات لأداء عرضهم وفي النهاية يمنحهم المتفرجون قطعة أو ورقة نقدية كمكافأة لعرضهم وفي هذه الساحة توجد المأكولات الشعبية فترى الدخان يتصاعد من مشوى اللحوم. أما باعة الشاي فهم إما جلوس أو متجولون في الميدان يعرضون الشاي لكل من يرغب في الجمهور كما يقدم بالصياح باعة أحزمة النعناع للحاضرين. وفي فصل الشتاء يقدم الباعة للجمهور الصحلب والفول المدمس أو الحمص المطهي الذي يضاف إليه الثوم المهروس والملح والكمون وقطعا من الخبز وقليلا من زيت الزيتون وعصير الليمون وبيضة مسلوقة ويدعى شعبيا هذا الطبق “اللبلابي”.
سوق قريعة نسبة للمقاول محمد قريعة الذي بناه على تصميم المهندس المعماري الفرنسي برنارد زهرفوس. وقع بنائه على بعد 70 مترا في مكان كان يُدْعى “إذْرَيَّع” كلاب الذي كان سابقا سوقا لبيع التبن والحطب والفحم والنحاس وعُرِف بسمعته السيئة.
يُعتبر سوق قريعة روعة معمارية أمام باب الجبلي التاريخي، أخذت من المعمار العثماني والفارسي أجمل صورة. وقد تم تصميم فتح باب من أبوابه مقابلا لباب الجبلي. إلا أنه وقع إضافة سوق العمران بين سوق قريعة وباب الجبلي مما طمس بهاء باب الجبلي وشوه ساحته العتيقة.
إن التراث اللامادي جزء لا يتجزأ من ثقافتنا وانتمائنا من واجبنا الحفاظ عليه وإبراز قيمته الإنسانية حتى يكون تعبيرا ثقافيا حيا. وحسب تعريف اليونسكو “يشمل التراث اللامادي التقاليد أو أشكال التعبير الحية الموروثة من أسلافنا والتي تداولتها الأجيال الواحد تلو الاخر وصولا إلينا مثل التقاليد الشفهية والفنون الاستعراضية والممارسات الاجتماعية والطقوس والمناسبات الاحتفالية والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون والمعارف والمهارات في إنتاج الصناعات الحرفية التقليدية “.
يشمل التراث اللامادي التقاليد وأشكال التعبير الشفهي بما في ذلك اللغة كواسطة للتعبير عن التراث الثقافي غير المادي وتقاليد أداء العروض والممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات والمعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون والمهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية.
هدفنا التعريف بهذا التراث والحفاظ عليه من التلف وتخليده لأنه مقوم من أبرز مقومات الهوية الجماعية التي عملت أجيالٌ متعاقبة على تشكيلها.
إن العولمة تمحو كل الخصوصيات الاجتماعية والثقافية، هدفها تذويب الثقافات جميعها في النهاية وتنصيب الثقافة المنتصرة مثل تعميم تصاميم اللباس وانتشارها لتغطية التصاميم المحلية بالإضافة إلى عادات الأكل والزواج وغيرها من الطقوس التي تقتدي بما هو وافد. ودور الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي مهم جدا للهيمنة على الثقافات المحلية وتذويبها واندثارها لتسود ثقافة واحدة تمهيدا للحكومة العالمية المرتقبة…
إن ساحة باب الجبلي ما هي إلا جزء من مدينة صفاقس العتيقة التي أصبحت في حالة يرثى لها وكما فعل الملك محمد السادس في شأن إعادة تأهيل مدينة مراكش بالمغرب ندعو السيد رئيس الجمهورية
قيس سعيد إلى مدينة صفاقس العتيقة حتى يتيقن بنفسه تدهور المدينة المستمر ويقرر اتخاذ التدابير لتجديد واجهات المباني وتدعيم الجدران وتبليط الشوارع وترميم الأسقف والأبواب الخشبية وتحسين الإضاءة العامة وإنشاء ساحات عامة لأنها تشكل الروابط بين الناس وتساهم في حيوية المدينة.
إن إعادة إنشاء فضاء باب الجبلي التاريخية التي اختزنت عبر 1115 سنة تعبيرات الثقافة الشعبية سوف تكون مبادرة لإحياء تراثنا اللامادي الثري بالمعارف والمهارات في كل ميدان مما يوفر لسكان مدينة صفاقس المتعة والفرجة ويتواصل هذا الابداع للأجيال القادمة وبالكاد يمكن أن يكون هذا الفضاء قطبا سياحيا يساهم في التنمية المستدامة بمدينة صفاقس.