عبد العزيز بو تفليقة: مأساة الفرص الضائعة

بقلم: دكتور محيي الدين عميمور

أعترف أنني عشت وضعية تناقض لم أعرفها من قبلُ وأنا أخط هذه السطور عن رجل لعل أهم أحلامه في شيخوخته وإثر مرضه، وربما قبل ذلك بسنوات وسنوات،  في أن يودّعه الشعب الجزائري عند رحيله بما يشبه أو يفوق حزنا ويتفوق لوْعةً على توديع الجماهير للرئيس الراحل هواري بو مدين، وإذا به يموت وهو مازال يتنفس، ويغيب عن الوجود وهو ما زال يرى ويسمع، وينتهي تاريخه وكأنه كان جملة معترضة في خطاب طويل لسياسيّ مغرمٍ بالمحسنات البديعية والبلاغيات اللغوية.

وبرغم أن الموت يوحّد بين الجميع فإنني لا أتصور أن يكون تأبين قائد تاريخي بمستوى عبد العزيز بو تفليقة أن تتوقف عند منطق “أذكروا محاسن موتاكم”، الجملة التي يمكن أن يقولها عدوّ أو خصم عنيد، ويقال أنها غير مؤسسة.

وأيا كانت المشاعر تجاه الرجل، وأيا كان ما يُنسب له من أخطاء وهِنات، لابد بداية أن نتذكر بأنه كان جزءا من تاريخ الجزائر الثريّ، وبأن حياته وممارساته كانت فصلا من تاريخ الوطن العربي والعالم الإسلامي، بل والعالم بشكل ما، وهو فصل لا يمكن تجاهله أو إنكاره.

لكنه، كغيره من القادة في العالم كله، أحسن وأساء، وأصلح وأفسد، وتدخلُ نسبة الحسنات إلى السيئات في إطار التثمين الشخصي لمن يتناول مساره، وهو التثمين الذي سوف يُحدد مدى التزام الكاتب أو المؤرخ بالموضوعية أو تناقضه معها، ويُعطي بالتالي القيمة الحقيقية لما يقوله، كشاهد على التاريخ أو مُسجّل لأحداثه، خصوصا إذا لم يتجاهل الدور الفاعل، سلبا أو إيجابا،  لرجال كانوا حول الرئيس، وسواء كان هو شخصيا من اختارهم، أم كانوا ممن وضعوا في طريقه، برضاه أو بتفهمه أو بانصياعه.

ومن النذالة، فيما أرى، أن ننسى لبو تفليقة إنجازات وطنية كثيرة من بينها إنجاز المصالحة الوطنية، وأيا كانت الثغرات التي ارتبطت بها، والتي كان منها أن البطانة عتمت تماما، بتوجيه منه أو بتواطؤٍ أو لامبالاة، على دور الرئيس الأسبق اليمين زروال في اتخاذ خطواتها الأولى عبر قانون الرحمة ، وكان أهمها أنها اقتصرت على ما ارتبط بالعشرية الدموية، فلم تتوسع لتشمل الحركة الوطنية في مجموعها.

ولا يمكن أن ننسى أن الجزائر، وللمرة الأولى في تاريخها، تمكنت في عهده من التخلص من الديون الخارجية، وليس من العدل أن ننسى النهضة العمرانية الهائلة التي شهدتها معظم مناطق الجمهورية، والتي ربطت المدن الكبرى بما حولها من قرى ومداشر، أو نتناسى استحداث “المترو” وعودة “الترام” إلى مجال النقل العمومي في إطار تكثيف شبكة النقل الجماعي، وسيكون من الجحود أن ننسى الزيادة العددية لمؤسسات التعليم العالي والتي تجاوزت خمسين مركزا جامعيا، ناهيك من آلاف الثانويات والمدارس ومراكز التكوين المهني.

ولا يمكن أن ننسى وقفة بو تفليقة في بروكسيل 2002 لتذكير العالم بفضل الحضارة العربية الإسلامية، موردا قول “موريس بوكاي”، الذي أكد بأنه “حينما كان الإسلام في عز مجده وعظمته بين القرن الثامن والقرن الثاني عشر الميلادي كان التطور العلمي في البلدان المسيحية مكبلا بالأغلال”، وذلك وقفته في كوبنهاغن 2009 ، باسم إفريقيا للتحذير من أخطاء التهاون الدولي في قضية المناخ، ولتحميل دول الكبرى مسؤولية التقصير في حماية البيئة، ولا يمكن أن نتجاهل حرصه على عدم تجاوز الخطوط الحمراء في أي خصومة مع الأشقاء والجيران.

ولن أنسى أن أسجّل للرئيس بو تفليقة موقف رجولة اتخذه معي إثر إنهاء مهامي الوزارية، عندما تكاثر عدد الضباع التي تخصصت في نهش لحمي، فقد هاتفني شخصيا ليطلب مني اقتراح الموقع الذي أرغب في أن أشغله، وفي السلك الديبلوماسي على وجه الخصوص،وفضلت يومها العودة إلى مجلس الأمة، الذي كنت عُيّنت فيه بقرار من الرئيس اليمين زروال.

لكن مكالمة بو تفليقة وتجاوبه مع رغبتي كانت صفعة لكل من زعموا أن خروجي من الحكومة كان عقابا على تقصير أو توبيخا على قصور أو ندما على ثقة لم تكن في محلها، وهو ما كنت كتبته في حينه.

ولعلي هنا استرجع لقطة تثبت الجانب المرح في تصرفات الرئيس الراحل.

كان ذلك بعد إعفائي من الوزارة في 2001، حيث أخذ البعض يردد في المجالس أن إقالتي دليل على أن الرئيس ساخط عليّ، وهو ما يؤدي غالبا إلى نفور المجتمع السياسي من المعني، بشكل مشابه لما تصرف به آخرون يوما، أملا في مرضاة الرئيس عندما ينقل له موقف النفور، فأداروا ظهورهم لشاعر الثورة الجزائرية، مُفدي زكريا، بحيث اضطر إلى الاستقرار في تونس ممارسا تجارته إلى أن توفاه الله، وكان الرئيس بو مدين بريئا مما قيل يومها أنه أمر بعقابه لمدحه عاهلا كان يحمل لواء العداء ضد الجزائر.

والأمر الطريف الذي حدث هو أنني كنت مدعوا، بصفتي البرلمانية، إلى حفل غداء يحضره الرئيس في قصر الأمم، وفضلت الابتعاد نحو 15 مترا عن الممر الذي كان يسلكه وهو يُغادر المأدبة، وبمجرد أن رآني حتى غيّر اتجاهه بما أدهش من يتابعون سيره إلى وصل إليّ، وراح يهمس لي بحديث كان دردشة عادية جدا لا تبرر تغييره لخط سيره، واستمعت له بدون أن أتكلم إلى أن فاجأني بالسؤال: لماذا جئت بمسدسك؟”، وقلت له مندهشا ما أعرف أنه يعرفه: ” لست أنا من يأتي بمسدس في حفل يحضره رئيس الجمهورية”.

ولأنني أعرف أسلوبه في إرسال البرقيات استنتجتُ أنه أراد، بتصرفه المفاجئ، أن يقول للجمع الذي كان يتابع اللقطة مندهشا: علاقاتي مع عميمور ومحبتيَ له هِيَ هِيَ.

وعندما انهالت عليّ أسئلة تريد أن تعرف ماذا قال لي الرئيس، كنت أجيب ببساطة أزعجت البعض: كان يسألني عن الساعة !!.

وهنا يأتي التناقض المؤسفُ في موقفي من بو تفليقة.

فالواقع هو أن بعض مواقفه المتعاطفة معي لم تتمكن من استئصال ما أخذته عليه من مآخذ وتسبب في نفوري منه، خصوصا بعد 2008، عندما اتجه لتعديل الدستور ليحظى بعهدة ثالثة كانت بداية الانزلاق، وهو ما كنت كتبته آنذاك، بكل أدب واحترام.

وأعترف أنني كنت وصلت آنذاك إلى اليقين بأن الوقت قد حان ليتفرغ “سي عبد القادر” لما هو أهم من إدارة شؤون الدولة، فيتنحى جانبا عن المنصب الرسمي ليصبح مرجعية رئيسية للأمة، بل وللمنطقة كلها، بحكم تجربته الطويلة، وهكذا يُخصّصُ جلّ وقته لتسجيل شهادته على تاريخ الجزائر الحديث الذي يعتبر هو من أبرز شهوده ومن بين صانعيه، ابتداء من عملية التفاوض التي أجراها مع الزعماء المسجونين في فرنسا، وعلى رأسهم أحمد بن بله، باسم قيادة جيش التحرير الوطني الممثلة في هواري بو مدين، ثم أحداث 1962 بكل تفاصيلها وبكامل معطياتها، خصوصا المسيرة الصعبة من مؤتمر طرابلس إلى انفجار الخلاف بين الحكومة المؤقتة ورئاسة الأركان، وخلفيات التحالف بين بن بله وبو مدين، ثم تفاصيل الصراع بين زعيمين ارتبطا بعلاقة إستراتيجية منذ المسيرة القادمة من تلمسان، ثم أحداث 19 يونيو 1965 وتفاصيل ما حدث وحقيقة المواقف، ثم مسيرة الجزائر في عهد الرئيس هواري بو مدين بما في ذلك الاهتمامات الداخلية كالثورة الزراعية والتسيير الاشتراكي للمؤسسات وثورة التصنيع، وكلها إنجازات شارك بو تفليقة في إقرارها إلى جانب رئيس الجمهورية بصفته عضوا في مجلس الثورة، ثم القضايا المرتبطة بتأميم النفط وبالعلاقات مع فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية المتحدة، ثم مرحلة حرب أكتوبر والمساهمات الجزائرية التاريخية فيها، والتحركات الإفريقية واسعة المدى بما فيها مؤتمرات القمة وجهود المصالحة بين بعض دولها، ورئاسة الجمعية العامة للأمم واستقبال ياسر عرفات على منبرها، ثم مرحلة اشتعال الموقف بين الجزائر والمغرب نتيجة لرفض المغرب الاعتراف بالرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بخصوص الصحراء الغربية وانكشاف مؤامرة تقسيم الصحراء بينه وبين موريطانيا، وإعلان الجمهورية الصحراوية بضغوط من العقيد القذافي بعد تراجع المغرب عن تعهداته، ثم مرحلة استكمال الشرعية الثورية في الجزائر بالشرعية الدستورية في 1976 بعد اعتماد الميثاق الوطني، ثم مرحلة الجبهة القومية للصمود والتصدي إثر زيارة الرئيس السادات للقدس المحتلة، ثم مرحلة مرض الرئيس بو مدين بكل ما ارتبط بها، وأخير وليس آخرا الأحداث التي عرفتها البلاد إثر وفاة الرئيس ووصولا إلى تصفيات 1983 وكل ما يرتبط بأحداث أكتوبر 1988، وبالطبع كل القضايا المرتبطة بالتسعينيات ومن بينها محاولة استقطابه هو شخصيا لتولى رئاسة الدولة في 1994، بكل تفاصيلها.

كلها أحداث هائلة هي معالم رئيسية في تاريخ البلاد ويشكل بو تفليقة واحدا من أهم شهودها، ويتحمل مسؤولية كبرى في توثيقها وإعداد المادة الرئيسية لمن سيكتبون تاريخها.

وهنا يأتي أمر أكثر خطورة، فهو يتحمل مسؤولية كبيرة في عدم احترام تركة الرئيس هواري بو مدين فيما يتعلق برعاية اللغة العربية وترسيخ وجودها وإثراء مجالاتها، وهو ما اعتبره كثيرون، بخبث مؤكد، جزءا من عملية التعتيم على مسيرة الرئيس بو مدين.

وكان من أسباب تزايد سخطي ما ردده البعض من أن تجاهله لمن كان ولي أمره الحقيقي هو في واقع الأمر تجاوب مع توجهات فرانكولائكية وبربرية كانت تكره الرئيس الراحل، جحودا أو عمالة أو استلابا، تماما ككراهيتها للأمير عبد القادر ولمصالي الحاج ولكل من يقول كلمة خير فيهم جميعا، وأضاف ذلك ضِغثا على إبالة، وقضى في نفسي على كل محاولة للتبرير أو التفهم والتماس المعاذير. 

وربما كان هذا الجحود المؤسف من خلفيات التعتيم العربي وربما العالمي أيضا على دور هواري بو مدين في حركة عدم الانحياز، حيث أن كل الدول التي كان لها دورها المميز في الحركة حرصت على تمجيد قادتها تمجيدا لبلادهم نفسها، وهكذا ظل متألقا اسم جمال عبد الناصر وشو إن لاي وتيتو، بينما توارى إلى حدّ كبير اسم الزعيم الذي ترأس في الجزائر مؤتمرا أعطى الحركة عمقها الاقتصادي، وزأر قائلا، باسم عدم الانحياز في الجمعية العامة للأمم المتحدة: النظام الدولي الحالي نظام جائرٌ بُنِيَ في غيبتنا.

والحديث يطول، وسيُكتب الكثير عن بوتفليقة، لكنني أتوقع أن تكون هناك كتابات متجنية وتصفية لحسابات وتعبير عن خلفيات، ومن هنا أنصح القارئ المهتم بأن يحرص على تعدّد مصادره، وأن يبذل جهدا للمقارنة بين الشهادات لاعتماد أكثرها مصداقية، وسيكون من بين ما يُمكّنه من ذلك أن يتعرف على شخصية الشاهد وعلى مدى استفادته من “عطايا” الرئيس السابق أو حرمانه منها، وأن يتساءل عن موقفه منه في مراحل حياته المختلفة. 

لكن كلمة حق يجب أن تقال، فقد أحاطت جماهير شعبنا في معظمها بكل تعاطف انتقال بو تفليقة إلى الرفيق الأعلى، برغم كل ما كانت تأخذه عليه، خصوصا في عهدته الرابعة، نتيجة عدم حماية الوفرة المالية من أصابع الفساد، وتمكين “عصابة” من التحكم في مقاليد الأمور.

  ويثبت ردّ فعل الشعب الجزائري بأن الشعوب الأصيلة النبيلة تضع كل شيء في مكانه، وتدرك بأن الراحل اجتهد وأصاب واجتهد وأخطأ، لمجرد أنه بشر، وأنه لا شماتة في الموت. 

رحم الله سي عبد القادر وغفر له.