عمر بوساحة *: وعي جديد او الكارثة

الجزائريون بحاجة ملحة وعاجلة الى تحيين عقولهم “Mise a jour “، فنحن نعيش خارج أسوار عصرنا منذ زمن بعيد، والأدهى أننا إذا تحركنا لفتح آفاق جديدة للحياة نتحرك في الغالب الى الوراء وليس الى الامام كما يحصل لدى غالبية الأمم والشعوب، فأغلب انتفاضاتنا وحراكاتنا أعادتنا الى الخلف بسبب نقص معرفتنا بالواقع، وامتلاكنا لوعي عقلاني منتج في الواقع الذي نتحرك فيه.

اندلعت انتفاضة اكتوبر 88 ضد الاستبداد السياسي والنظام الشللي الفاسد ولكنها عوض ان تحررنا أسفرت عن وعي سياسي هو أكثر تخلفا وإرهابا من وعي نظام الحزب الواحد الذي حكمنا لعقود من الزمن، وجاء الحراك الذي ناضلنا لأجله وفيه و”أنبهرنا به”، والذي اعتقدنا بأنه سيخرجنا بشكل نهائي من الزمن القديم، فوجدنا أنفسنا في حضن ثقافة تتجاذبها خطابات سياسية ودينية متطرفة أعادتنا إلى البداية الاولى ولم نبرح نقطة الانطلاق.

فلا الطبقة السياسية التي انتفض الجزائريون لاستبدالها بعثت بإشارات جدية تدل على أنها فهمت حركة التاريخ وانخرطت فيها، ولا مدرستنا وجامعاتنا المهترئة انتبهت إلى دورها التربوي ــ التعليمي، فاستمرت تتخبط في مشاكلها وصراعاتها المطلبية والايديولوجية، ولا إعلامنا الذي يفترض فيه مسايرة التطورات وانجازات الإعلام المعاصر حتى يوفر للجزائريين الاستفادة من هذه الانجازات والفتوحات، قد قام بدوره التنويري. لم يسفر تعدد المنابر الاعلامية في الجزائر في الغالب إلا في تكريس العمى والجهل والزيادة في مساحته، وإعادة الجزائريين الى زمن الدروشة والدجل وتدمير القيم وتراجع حرية الانسان، وتزوير الحقائق التي ناضلت الانسانية عبر الاعلام من أجل إنارتها مدة قرون، فبعض وسائل إعلامنا هي أكثر من مجرمة في حق شعبها بحيث تعمل بما توفر لديها من أدوات وتكنولوجيا متقدمة في تشويه الحقائق والكذب وتدجين ما تبقى من وعي متوثب لدى الجزائريين ثمَ الزيادة في منسوب الجهل لديهم.

نسير نحن الجزائريون بخلاف أغلب شعوب العالم عكس التيار راضون بوضعنا وبفكر الاستبداد السياسي والثقافي الذي يسيجنا، وحينما ننتفض على أوضاعنا كما حصل في بعض فترات التاريخ التي ذكرنا البعض منها، نعود القهقرى إلى مراحل هي أشنع من تلك التي عشناها، تتقاذفنا خطابات التطرف بكل اشكاله لكوننا فرطنا في البوصلة الحقيقية التي ستمنحنا فرصة النجاة.

والبوصلة باعتقادنا ليست سوى وعينا العلمي بواقعنا والمعرفة التي تتيح لنا فرصة التحرر من حياة ثقافية واجتماعية ـ سياسية تعمل على خنقنا باستمرار. دعَمت دول ومجتمعات كانت في نفس أوضاعها نخبها المثقفة وحمتها، ادراكا منها بالدور التاريخي الذي تؤديه تلك النخب وحاجة شعوبها لهذا الدور، بينما قمنا نحن بتهميش نخبنا، ولا نزال نحيدها ونسخر منها ونحفز الدهماء بقصد أو غير قصد ليجهزوا عليها، ويجعلوا من مثقفينا منبوذين وغرباء في أوطانهم بتهم مكبلة للفكر راح ضحيتها الوطن قبل غيره، وأثث مثقفون في أوطان أخرى قريبة منا كانت في نفس أوضاعنا ثقافاتهم بآليات عقلية وثقافية منحت شعوبهم فرصة التحرر من واقع لا يزال يأسرنا ولا نزال نتخبط فيه.

امتلاك علوم العصر ومعارفه والسعي لاستعمالها والاهتداء بها سبيلنا للنجاة. وما دون هذا فان الحياة من حولنا ستضيق أكثر وسيجرفنا الطوفان لا محالة، ولا يكفينا الحماس والغضب الذي نبديه في بعض المراحل من التاريخ ومناسباته ونسميه انتفاضة أو ثورة وحراكا في التغلب على مشاكلنا ما لم نمتلك وعيا حقيقيا يعرفنا بموضوعية على أوضاعنا ويمنحنا سبل الافلات منها.

ان كان المطلوب من الانسان تغيير العالم كما يقال عند الذين توقفوا عند الشطر الأول من القول المعروف، فان هذا التغيير لا يمكن حصوله بالانفعالات والغضب والتجاذبات البلهاء، بل بالفهم العقلاني للواقع الذي يعيش فيه البشر، ومن دون هذا الوعي الذي يتطلب عملا وجهدا كبيرين وليس شعارات ثورجية كررناها منذ الاستقلال الى اليوم، فإننا سنسير حتما باتجاه هاوية يصعب العودة منها في هذا العالم الذي لا يتعاطف مع السذج والمتحمسين.

(*) عمر بوساحة: مستشار وزير الثقافة الجزائري