وأنا أتصفح ذات صباح هاتفي وفحوى بريدي الإلكتروني، عثرت في المسنجر على فيديو صار متداولا في وسائط التواصل الاجتماعي يتحدث فيه شخص معروف بالمغرب بانتمائه للتيار الإسلامي هو أبو زيد المقرئ الإدريسي، بالكثير من الامتداح والأكثر من الحمد، عن رواية “رَواء مكة” وعن صاحبها حسن أوريد. وما كان الأمر ليثيرني كثيرا لولا أن هذه هي المرة الأولى التي يتناول فيها رجلٌ من أكبر منظري الجناح الدعوي للحزب الإسلامي المغربي الحاكم (حزب العدالة والتنمية) أعمال مثقف قريب من القصر (إذ إن حسن أوريد قد درس مع الملك المغربي الحالي حين كان وليا للعهد) وأحد من تولوا مناصب عليا سامية في دواليب الدولة المغربية (مؤرخا للمملكة، وواليا على جهة كبرى من جهات المغرب)، وقريب من اليسار كما من الحركة الأمازيغية وروادها.
بل إن الأمر ما كان ليثيرني أكثر لو كان المقرئ المساح للثقافة المغربية بمنظاره الإسلامي قد تعود الحديث عن حسن أوريد وهو أبعد ما يكون عنه بُعد الوارد عن الوريد. لقد بدا الأمر أشبه بكثير بما حدث من بضع سنوات قبل ذلك بين نظيره السياسي عبد الإله بنكيران الرأس الأول آنذاك في حزب العدالة والتنمية ورئيس وزراء البلد وبين رئيسة تآلف اليسار المغربي نبيلة منيب.
لقد كان موقفُ هذه الأخيرة حينئذ (أي قبل الانتخابات الأخيرة) من حزب قريب من الملك (أسسه أحد المقربين منه) موقفَ نقد عنيف ورفض قاطع، بالرغم من أنه استقطب، أو بسبب أنه استقطب الكثير من عناصر اليسار الماركسي من رفاق الزعيمة السياسية. وهو الأمر الذي راق كثيرا لرئيس حزب الإسلاميين فكال لها المديح تلو المديح، هو الذي لم يتحدث عنها أبدا قبل ذلك إلا بالشر أو بالصمت… ما الذي يعنيه إذن هذا التقارب الاستراتيجي بين السياسي الدعوي وبين الدعوي السياسي؟ إنهما وجهان لعملة واحدة، فالدعَوي درع السياسي والسياسي أفق الدعوي، ولا أدل على ذلك من كون صاحبنا المقرئ الإدريسي قد أنشأ لنفسه مؤسسة باسمه تنشر “مؤلفاته” وفيها أصدر كتابا له يعتبره توجيهيا بعنوان: “مراجعات في تطوير الفكر السياسي الإسلامي” (2020). الفرح بعودة الابن الضال لم يهتم صاحبنا المقرئ الدعوي برجل الدولة الأديب والمفكر بشكل صريح أبدا قبل أن يصدر هذا الكتاب عن تجربة الحج و”الأوبة” إلى رحاب الدين. وهو حين يتحدث عنه يقوم بذلك بلهجة مادحة مفخمة، تعلي من شأنه ومن قيمته ومن امتلاكه للغات الأجنبية وتمكُّنه من ناصية اللغة العربية. بل إنه يمتدح كل شيء فيه ماضيا وحاضرا أمام بسمات الحاضرين معه في منتداه، من خليجيين أصوليين ومغاربة من أبناء جلدته…
وهذا الاهتمام المفاجئ والمتحمس يجعله يضخم أكثر من الأمر ، في حمأة الفرحة عودة الابن الضال هذا، ليقارن كتاب حسن أوريد بإعلان كتاب ومفكرين غربيين ردتهم عن المسيحية واعتناقهم لديانة المتحدث، من قبيل روجيه غارودي وغيره. وكأنه بذلك يعلن أن الحدث هذا له وزن الحدث ذاك، بما أنه يعضد قوة الإسلام الروحية والفكرية ونصره المكين على أعدائه في الداخل والخارج… ما الذي أثار صاحبنا الدَّعوي في هذا الكتاب حتى يتحدث عنه بهذه اللهجة التي تجعله بدوره كتاب دعوة، وصاحبه من أقرب المقربين له؟ ولماذا قام بتحريف مدلول عنوانه إلى الارتواء مع أن صاحبه أثبت في مطلع السيرة الروائية ما يلي، محيلا إلى لسان العرب : “رَواء أي: عذب. والرُّواء: المنظر الحسن”. فالظاهر أن العذوبة لدى المؤلف وهو حس جمالي، تسبق لديه الرَّواء أو الارتواء أي إخماد العطش… وهو ما يدل دلالة قاطعة على مدلولات مغايرة للارتواء التي يطفئ بها المقرئ الإدريسي عطشه الروحي. لكن، لماذا لمْ يهتم صاحبنا قبل ذلك بكتاب الأنثربولوجي المغربي عبد الله حمودي الصادر باللغة الفرنسية عام 2005 عن دار لوسوي بباريس، مع أن صيغته العربية صدرت عن دار الساقي في العام نفسه بعنوان: “حكاية حجّ. موسم في مكة”؟ ولا اهتمَّ قبلها برواية عبد الكبير الخطيبي الصادرة بالفرنسية عام 2003 : “حج فنان عاشق”؟ ولا بعد ذلك بسنوات بكتابي محمد عابد الجابري: “مدخل إلى القرآن الكريم” و “فهم القرآن الحكيم. التفسير الواضح حسب ترتيب النزول” الصادرين تباعا عام 2006 و2008؟ حدود الانفتاح أو التحرر المحجوز…
تكمن أهمية هذه الأسئلة في ما تعلن عنه من خلخلة وبياضات في الاستراتيجية الخطابية للمقرئ “القارئ”، ومن ثم في ما تفصح عنه من استراتيجية استقطابية ذات خلفية “جهادية” على المستوى الثقافي عموما. بيد أنها من ناحية أخرى تكشف لنا عن ظاهرة أخرى تتبدى في النطاق الذي يدور فيه المثقف في العالم العربي الإسلامي وفي حدود اللائكية ومداها. ومن دون أن ندخل في علاقة التدين بالعلمانية، أو نجعلها هنا محورا للنقاش، يمكننا القول بأن ثمة لازمة تجعل من مثقفي العالم العربي، منذ طه حسين والعقاد وحتى يومنا هذا، يبدؤون بمناوشة رواسخ المقدس في المجتمعات العربية وينتهون إلى مهادنتها؛ وكأن الحدود التي يفرضها الفكر والتاريخ الإسلامي على المثقف في عصرنا تجعل تلك الحدود مهما توارت وخفتت سلطتها تظل راسخة في نهاية المطاف. إنه الوعي الشقي أو شكل من أشكاله !
بل هي مفارقات المثقف في المجتمعات التي تتميز، كما يقول عبد الله العروي “بتخلفها التاريخي” وتتواشج فيها المراحل التاريخية وتتعاضد بحيث تجد نفسها تعيش مجمل فتراتها التاريخية في فترة واحدة. من غير خط تطور تاريخي؛ أو لنقل إنها عودة المكبوت من النافذة بعد أطرد توّا من الباب… يتخلى طه حسين عن شكوكه في التاريخ العربي ويتابع مسيرا يتوجه عميدا للأدب العربي، وهو يستحقه استحقاقا، وتلك حكاية صارت كلاسيكية تاريخ الثقافة العربية.
وينتقل حسن حنفي من المواجهة المباشرة والفينومينولوجية لسيرة نبي الإسلام (وتلك كانت أطروحته في السوربون عام 1964) ليبتكر مفهوم اليسار الإسلامي الذي لم يُكتب له العيش، لا باعتباره مفهوما سياسيا ولا بوصفه مفهوما ثقافيا وفكريا. ويضطر نصر حامد أبو زيد إلى الهجرة إلى هولندا كي لا يتخلى عن “نقد” الفكر الديني موضوع دراساته وتحاليله، قبل أن يصاب بفيروس غريب أودى بحياته من غير أن يكمل مشروعه الفكري النقدي. وبعد أن “استكمل” محمد عابد الجابري مشروع قراءته للتراث، ها هو سنوات قليلة قبل وفاته يعود للأصول وعلى هدى الطبري يصدر تفسيرا واضحا للقرآن.
وها نحن نطرق اليوم، بمحض صدف الترابط الثقافي، “تراجع” رجل دولة ومثقف مغربي رصين عن “علمانية” مفترضة في شرط ثقافي وتاريخي، صادف وصول الإسلاميين إلى السلطة بالمغرب، وصادف من ثمّ ادعاء هؤلاء بأنهم رعاة (ورعاع) لذاكرة الثقافة الإسلامية بالغرب الإسلامي. الحج بين التجربة الأسطورية والأنثربولوجية والروحانية كتب الخطيبي بشكل مبكر عن نبي الإسلام مقالات، قلَّ من انتبه إلى أهميتها، تتطرق للجنس في القرآن وللنبي محمد ولقضايا أخرى، وهي مترجمة للعربية، بعضها بقلمنا والبعض الآخر بقلم مترجمين آخرين. وإن كان الخطيبي يربط اهتمامه بالنبي بمولده يوم عيد الأضحى (وهو ما احتفى به رمزيا واسميا منذ كتابه “الذاكرة الموشومة”) فإنه في رواية “حج فنان عاشق”، وخلافا لعبد الله حمودي ولحسن أوريد، لا يختار الحكي بضمير المتكلم. أما الأنثربولوجي عبد الله حمودي فيحكي سيرة أنثربولوجية تقوده للحج بدافع ملتبس يمزج بين الرغبة التجريبية “المسارية” وبين الفضول الأنثربولوجي. إنه يعيش قلقا يجاوز الرغبة والمقصد العلمي معا ويعرب عن ذلك الالتباس وهو وسط الحجاج (ص. 11).
بل إن الأنثربولوجي يعرب عن هذا الالتباس بشكل أوضح في اللغة: “الرحلة إلى مكة ليست رحلة. إنها حج، أي أداء لفريضة. أبدأ قبل السفر، كجميع الأسفار، والاستثارة يهزمها القلق. لكني أعلم أن أداء فريضة مع المسافة التي لديّ مع المدلول الأخروي سيلزمني الخروج عن الأنا الذي أمضيت أعواما في بنائه بثمن باهظ” (ص. 13). يكمن الغموض الذي يلفّ الأنثربولوجي هنا في أنه وهو يمارس الحج يغدو ذاتا وموضوعا للملاحظة والتقصي، أو بالأحرى إن جسده يدخل دائرة المقدس ويندرج فيها وإلا سينعت بصفة تمنع عنه ممارسة تلك الفريضة. إنها فريضة مفروضة عليه كفرد وكعبد من عباد الرب، يوازن بها حياته الروحية والأخروية ،بحيث إنها من ناحية ثانية “فريضة” علمية لا يمكنه البحث فيها من غير عيشها بما أنه ينتمي عقديا للجماعة التي تمارسها. فالفرق بين البحث في الأولياء وزياراتهم والبحث في فريضة إسلامية عامة لا تخص فقط هذا الولي الصالح أو ذاك هو كما الفرق بين القراءة عن الجذبة أو مشاهدتها وعيشها مباشرة في دائرة من دوائر الصوفية بدوارها وصراخها وإيقاعها…إن رحلة الحج كما يعلن ذلك حمودي رحلة مُسارة voyage initiatique.
وهو في هذا الأمر يتوافق مع فحوى رواية الخطيبي التي يكون فيها الراوي يعيش مع “الرايسي” رحلة تعلمية يواكبه فيها إلى مكة محمولا على هوى الفن وروحانيته المتسامية. ونحن لا يمكننا أن نفهم رواية “حج فنان عاشق” من غير أن ندرك أن العلاقة التي تربط الخطيبي بالإسلام يستقيها من أسطورته الشخصية ومن يوم ميلاده ومن اسمه الشخصي: عبد الكبير وولادته يوم العيد الكبير (عيد الأضحى) الذي يوافق كل سنة موسم الحج !. يفتتح حسن أوريد سيرته الروائية بآية قرآنية عن مغفرة الذنوب. وهو ما يجعلنا من البدء وبتوكيد من تصريحات المؤلف، نعيش معه كتابة التفكير في طلب الغفران، ومن ثم في التوق إلى استعادة الانتماء إلى حظيرة أمة القرآن. إنه يمسك بيدنا كي نرافقه إلى رحلة فاصلة في حياته. فهو المسلم “العلماني” لا يحتاج إلى الشهادة أو الصيام أو الصلاة لأنها أركان غير كافية ربما لإقناعه بالقطيعة مع ماضيه. إنها فرائض يمارسها الغادي والبادي، أما الحج، فبالرغم من أنه ركن “اختياري” (لمن استطاع إليه سبيلا) فإنه الركن الأكثر إثارة لأنه قد يُعاش مرة واحدة، مثله في ذلك مثل الحياة أو الموت. ثم إنه طقس أقل “روتينية” من الصلاة، ويتطلب التنقل والمغامرة، ويُعاش بشكل جماعي وفي مكان قدسي يُعتبر مركز الأرض وسرتها. ثم إنه (مع صيام رمضان بشكل ما) الشعيرة التي تربط حياة العرب ومصيرهم من الجاهلية إلى الإسلام. هكذا يتساءل “الراوي”: “هل استكشاف بُعد متعال في حياة الإنسان، أو في حياتي على الأقل، يفترض أن أبدأ من الحج؟ ولمَ الحج؟ من دون شك لرمزيته، باعتباره الركن المكمّل لصرح الإسلام. باعتباره الجامع للمسلمين” (ص. 16).
هكذا يبدو أن أن ما يبتغيه صاحب “رواء مكة” هو الالتحاق بالقطيع بعد أن كان يحاول أن يعيش مثل ذئب الفلوات لما يقارب الستة عقود… إنها عودة شخصية يوثقها بسيرة روائية تصبح شهادة جديدة على انتماء جديد يجاوز الهوية الأمازيغية والهوية المثقفية والهوية الذاتية للمؤلف… بل إنها عودة إن لم تقرّب بين المفكّر والداعية، فهي على الأقل تمنح للداعية موطئ قدم يمكنه من أن يسير لملاقاة المفكر في تقاطع طرق يحج إليه المسلمون كلهم بمللهم ونِحلهم…
فريد الزاهي: مفكر مغربي