فلسطين وحرب الاستقلال ..

بقلم : دريد عوده – كاتب مقيم في نيويورك

الإعلام جزء لا يتحزّأ من الحرب، بل أكاد أقول: لا حرب من دون إعلام.هي المعركة الأخلاقية التي يجب كسبها قبل أن تبدأ المعركة العسكرية، ليس فقط أمام شعبك وجنودك، وفي وجدانهم، بل أيضاً لدى الرأي العام العالمي لكسب العقول والقلوب.
هي السردية التي يجب أن تسبق الأحداث، أن تؤطِّرها فكرياً ونفسياً ووجدانياً، أن تحصِّنها قيمياً وأخلاقياً.
قبل أن يغزو الأميركيون العراق، أسقطوه : صار غزوُ العراق إسقاطَ صدّام حسين بعد أن جرّدوه من كل قيمة بشرية وحوّلوه إلى مجرد وحش بشري يجب التخلص منه، بل صار اصطياده “واجباً أخلاقياً”، “واجباً إنسانياً حضارياً”!
الأمر نفسه انطبق على أفغانستان: بلاد من “الوحوش البشرية” يجب اجتياحها لتحصين الحضارة والمدنية من البرابرة! هذا بعد أن انقلبت السردية الأميركية من اعتبار القاعدة “مقاتلين من أجل الحرية” ضد السوفيات ومدّهم الأحمر إلى “مقاتلين إرهابيين ضد الحرية” (الأميركية…).

وقبل الأميركيين كانت “الرواية الأخلاقية” اليهودية التي برّرت احتلال فلسطين وطرد شعبها الأصلي: الهولوكست! وما أدراك ما الهولوكست! إنها قصة العبور الموسوي الثاني، وهذه المرة ليس من حريق الصحراء بل من محرقة الغاز .
هكذا يُراد من، وللسردية الأخلاقية : إسكات الصوت المعارض، إخماد صوت الحق والضمير. كمّ الأفواه. 
إذا كنت ضد اسرائيل فهذا يعني أنك مع الهولوكوست!.
إذا كنت ضد التنكيل بالفلسطينيين فأنت مناهض للسامية، أنت “آري” ولو كنت أسود اللون من بلاد السافانا!.
إذاً الرواية الأخلاقية سيف ذات نصلين: تبرير الجريمة الموصوفة، الإبادة الجماعية على رؤوس الأشهاد، قتل أكثر من 40 ألف مدني معظمهم من الأطفال والنساء، أمام الإسرائيليين والعالم، وإسكات الرأي الآخر –

صوت الحق والضمير بحيث تصبح أنت المعارض أيضاً لحرب الإبادة الجماعية في غزّة “حيواناً بشرياً” داخل الأسوار، حصان طروادة يجب تقليم حوافرك.
كان لا بد من هذه المقدّمة للقول إنه من الضروري تجاوز تسمية “طوفان الأقصى”، واستبدالها بتسمية تُكسِبك أحقيّة السردية الأخلاقية ولو بعد فوات الأوان:
استبدال “طوفان الأقصى” بـ : “حرب الاستقلال”.
رغم “قدسية” تسمية طوفان الأقصى، فإنها أفقدت الفلسطيني الشرعية الأخلاقية!
يا للمفارقة! قدس الأقداس خسَّرك المعركة المقدسة: المعركة الأخلاقية، وأكسبت المحتل الإسرائيلي تلك الشرعية الأخلاقية للقضاء على “البرابرة” الذين يدقون الأبواب والأعناق.
لم يكد ينقص الإسرائيلي، ومعه الغربي (والعربي) المتأسرل، إلّا أن يصرخ ‏Hamas ad portasمثلما صرخ الرومان “هنيبعل على الأبواب!” ومثلما صرخوا “البرابرة الجرمان على أبواب الحضارة”!.
هناك دوماً تلك الحجة (غير الصائبة) في أدبيات الحركات الإسلامية الجهادية أن الخطاب الإسلامي قادر على الاستنهاض والتعبئة وشحذ الهمم والنفوس أكثر بكثير من الخطاب الوطني أو القومي، أو حتى الإنساني الحقوقي. 
من المؤكد أن شعار “طوفان الأقصى” الحماسوي صُمِّم على هذا الأساس والقياس : طوفان الأقصى سيؤدي حتماً إلى طوفان المسلمين من جهات المعمورة الأربع إلى بيت المقدس! .

طوفان الأقصى سيكون طوفان نوح الثاني، وفُلك الخلاص سيدفع مجاديفه مليار ونصف مليار مسلم، و”الغراب” اليهودي الأسود لن يشهد انحباس المياه الإسلامية المقدسة، مياه زمزم والكوثر، حتى تظهر حمامة فلسطين وفي فمها غصن الزيتونة اللاشرقية واللاغربية..
لم يتطلب الأمر وقتًا طويلًا لسقوط شرعية الشعار، بل منذ اليوم الأول طغت السردية الإسرائيلية ليس فقط عند الأسباط الأحد عشر، بل أيضاً عند السبط الضائع الذي فجأة وجدناه: كل الرأي العام الغربي والعالمي، وحتى العربي (!) تبنّى هذه السردية وسط تسونامي الضخ الإعلامي الإسرائيلي والعالمي: “البرابرة” ليسوا على الأبواب فقط بل داخل أسوار ميثولوجيا “أرض الميعاد”… و”صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ، نَوْحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا وَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى، لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ”.
في لحظة حوَّل “طوفان الأقصى” حائط الفيسبوك إلى حائط مبكى، والتويتر بات الطير الذي لم يشهد انحسار طوفان نوح، وتابوت العهد فُلك الخلاص اليهودي بين أشداق الغول: بلحظة صارت حماس “داعش”  

بالأمس القريب كان جنود الدولة الإسلامية (بدعم من حماس خالد مشعل!!) فرسان الحرية في القصير وحلب وحمص والبادية، وجرحاها شهداء أحياء يعودهم نتنياهو أبهم الروحي في المستشفيات؛ بالأمس القريب كان “الجدار الطيب” بين الدولة الإسلامية وشقيقتها الكبرى إسرائيل، جدار الجيرة بين داعش ويهودا، بين ISIL وISRA-IL .

“الجدار الطيب” الآن حائط مبكى…
لم يصمد “طوفان الأقصى” أمام تسونامي الهولوكوست الجديدة: لم يضفِ “المقدّس” أية شرعية أخلاقية على قضية شعب احتلَّت أرضه، على شعب يعيش في سجن غزة الكبير، ذاك “الآوشفيتز” الذي بناه الإسرائيليون للفلسطينيين بحجة ذاك الآوشفيتز الذي بناه أبناء الرايخ لحملة النجمة الصفراء.
حتى نحن، المناصرين حتى نخاعنا الشوكي للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية أخلاقية قبل أن تكون قضية شعب يناضل من أجل حريته واستقلاله، لم نتمكن من الصمود أخلاقياً أمام السؤال المسموم: هل أنت مع ما قامت به حماس في 7 أكتوبر؟ وهل تعتبر حماس إرهابية أم لا؟ سؤال مسنون على حجر تلك السردية أن حماس قطعت رؤوس الأطفال واغتصبت وخطفت النساء والعجّز (سردية بلا صور أو بصور مركّبة كصور كولن باول عن أسلحة الدمار الشامل في العراق!)، ولم يسعفنا أخلاقياً الرد أن الحرب بدأت عام 1948 عندما قُتِل الفلسطينيون وهُجِّروا من بلادهم وليس في 7 اكتوبر 2023 !. 
لم يستطع شعار “طوفان الأقصى” أن يعطي الشرعية الأخلاقية لغزوة 7 اكتوبر ، بل كاد أن يجرِّدها من أخلاقيات القضية، قضية شعب يناضل من أجل الاستقلال. كما لم يستجر الشعار طوفان مسلمي العالم، أقلّه فلسطينيي الضفة الذين “نأوا بأنفسهم”.
والطوفان الإسلامي الموعود دفاعاً عن المقدّسات توقف عند الدردنيل والبوسفور، وإذ بخليفة المسلمين أردوغان يكتفي بقنابله الصوتية والدخانية، خالعاً عباءة الخلافة التي ألبسها إياه خالد مشعل في طريقه إلى القدس عبر دمشق وإدلب…
والشعار نفسه جعل المواجهة بين “دولة” حماس الإسلامية ودولة إسرائيل اليهودية ، فسقطت حججنا ضد “الدولة اليهودية الصافية” ونضالنا الفكري والسياسي ضد نظام الأبارتايد في “إيريتز”، نظام الفصل العنصري القائم في إسرائيل ضد عرب 1948 أي المواطنين العرب في الدولة العبرية، وكذلك نظام التمييز العنصري ضد اليهود الشرقيين.

هل نسمح لأنفسنا بالنقد الذاتي (ولو كان “لا شيء يعلو فوق صوت المعركة الآن”!)، نقد “المقدس”، لتصحيح بوصلة القضية بل بوصلة المعركة والحرب؟!
لقد أثبتت الأيام أن “أسلمة”، بالأحرى “أخونة” القضية الفلسطينية تصفّيها! بداية بإقصاء المسيحي الفلسطيني والعربي، ثم إقصاء العرب العلمانيين والفلسطينيين الآخرين اللاحماسويين، وإقصاء اليهود المناهضين للأبارتايد في “أرض الميعاد” وما أكثرهم في الولايات المتحدة حيث اقتحم يهود أميركيون مبنى الكابيتول (على الطريقة الترامبية) تنديداً بحرب الإبادة التي يقوم بها ما يسمّى جيش الدفاع الاسرائيلي IDA ضد الأطفال والمدنيين الفلسطينيين، ووقوفهم في الساحات والمظاهرات، الكتف إلى الكتف مع فلسطينيي العالم، ضد محرقة غزة، وانتهاءً بإقصاء حركات التحرّر الوطني في أفريقيا وأميركا الاتينية وآسيا وإقصاء منظمات حقوق الإنسان والتيارات اليسارية في الغرب، إقصاء كل هؤلاء عن تلك الحركة النضالية النقية “فلسطين حرّة”Free Palestine 
يجب تخطّي شعار “طوفان الأقصى” الفئوي من القاموس النضالي الفلسطيني وتبنّي الشعار الوطني الشامل الجامع “حرب الاستقلال” شعاراً أوحد، شعاراً موحَّداً لكل الشعب الفلسطيني، شعاراً موحِّداً ودائماً، عنواناً لحركة تحرّر وطني ضد آخر وأعتى احتلال على وجه الأرض.
لا نقول إن بهذا الشعار ستنتصر القضية الفلسطينية غداً، لكنْ أقلّه لا تخسر !
بهذا الشعار “حرب الاستقلال” نحاكي وجدان الشعوب التي خاضت حروب استقلالها: من حرب الاستقلال في أميركا ضد الإنكليز، إلى حرب استقلال الهند عن المستعمر البريطاني، وحرب استقلال الجزائر عن الاستعمار الفرنسي، وحرب فيتنام ضد الكاوبوي الآتي من الغرب المتوحّش Wild West…
بهذا يتحول 7 اكتوبر إلى محطة على طريق الاستقلال، لا بل أكثر من هذا بكثير : تصبح الحرب الحالية “حرب الاستقلال الثانية” بعد “حرب الاستقلال الأولى” التي انتهت بجلاء المحتل وعسكريتاريا المستوطنين (المستوطن ليس مدنياً بريئاً…) عن الضفة وغزة وانتقال السلطة إلى “أرض الميعاد الفلسطينية” هذه المرة.
بهذا تدخل حرب الاستقلال في الوجدان الفلسطيني والعربي والإنساني قاطبة، فتتوحد الضفة والقطاع في معمودية النار وإلّا سيأكل “العجلُ الذهبي” الثورَ الأبيض بعد الثور الأسود… وتتوحد الأصوات في العالم بخاصة بعد أن غيّرت دماء أطفال غزة سردية الاحتلال؛ تحوّل كبير يجب البناء عليه لتغيّر الشعوب، تحديداً في الغرب، سياسات حكوماتها الغارقة في الأسرلة حتى وعيها الباطني بل نخاعها الشوكي التوراتي.
هكذا تكتب الشعوب تاريخها المضيء: إنها “حرب الاستقلال” الفلسطينية وبيرقها الخفّاق فلسطين حرّة.


دريد عوده – كاتب مقيم في نيوورك ورئيس الحركة المتوسطية