بقلم – دكتور محيي الدين عميمور
تابعت بعواطف متقدة وأحاسيس ملتهبة تصريحات قائد حركة حماس في غزة المجاهد يحيى السنوار، والتي قال عنها الرفيق محمد يعقوبي في إحدى تغريداته: “لأول مرة أستمع مطولا لهذا الأسد السنوار، قائد ميداني حقيقي.. لا كذب ولا لف ولا دوران ولا مجاملة ولا خوف ولا حتى حسابات سياسية.. تلك الحسابات التي تعودناها لعقود مع خالد مشعل..”.
يواصل يعقوبي قائلا: “بالنسبة للسنوار… المقاومة قضية وجود.. هي أهم من النساء والأطفال والمدنيين، لأنها ضمان لبقاء ووجود شعب كامل بل أمة كاملة تتوق لتحرير أولى القبلتين…تلك المقاومة التي لم يكن السنوار شحيحا في كشف بعض معلوماتها فوق وتحت الأرض مما يبشر بتغيير جذري في موازين القوة، ويكفي صدمة للاحتلال قوله أن أنفاق المنظومة الصاروخية التي يسعى الكيان لتدميرها لا يقل طولها عن 500 كلم تحت الأرض “..!
في البداية قررت أن أعلق قائلا: سلمت الأنامل.
لكنني، عندما راجعت نفسي واسترجعت أحداث المنطقة، فتر حماسي وتراجعت عن موقفي، وقلت بمنتهى الأخوة للأخ عبد الباري عطوان، الذي هاتفني ليطمئن عن تغيبي مؤخرا، إن في فمي ماء.
ثم قررت أن أقول رأيي وأنا أعرف بأن هناك من يرى أنني أقوم أحيانا بما يطلق عليه تعبير “محامي الشيطان”، ولا يخفي البعض استياءه عندما يراني أسبح ضد التيار، لكنني لا أملك أن أتنازل عن حقي في البوح بما أراه ولو لم ينسجم مع آراء الكثيرين، فلا مجال لمجاملة بلاغية ونحن في حرب اختلطت فيها أحيانا أذرعة العدو مع أصابع الشقيق.
ولن أذكّر بأن موقفي من “حماس” معروف، وحماسي للجهاد الفلسطيني ليس سرا، لكنني أقول أيضا بأن المبالغة في التغني بما تم تحقيقه ضد العدو يمكن أن يؤثر على النتائج التي ضحى من أجلها العشرات من المجاهدين ومن المدنيين، شيوخا ونساء وأطفالا.
لقد نجحت إسرائيل في ضمان الدعم والتأييد من معظم دول العالم، لأنها كانت تتظاهر دائما بالضعف وقلة الحيلة، وتستعدي القريب والبعيد على الغيلان العربية التي تحيط بها، أو التي كانت تحيط بها، من كل جانب.
وكانت عبارة “إلقاء اليهود في البحر” هي العملة التي تستثير بها إسرائيل جيوب الغرب ومصانع أسلحته وحناجر قادته، برغم أنه لم يثبت يوما أن هناك زعيما عربيا واحدا استعمل هذا التعبير، والذي سُجّل زورا على الرئيس المصري جمال عبد الناصر، ونسب محرفا للزعيم الفلسطيني أحمد الشقيري.
وكثيرون لا يعرفون أن ألمانيا ظلت تدفع التعويضات لإسرائيل حتى 2010، برغم أن هتلر انتحر في أبريل 1945، ومازالت الأبواق الغربية تجتر السخط والكراهية، ليس ضد النازية فحسب ولكن ضد الشعب الألماني نفسه، بمبرر أنه هو من دعم هتلر بما جعل منه السفاح الأكبر في تاريخ الإنسانية.
لكن الحماقة كانت هي السمة الغالبة على معظم المواقف العربية، ولن أذكر بما أصبح مجرد الإشارة له أمرا مقرفا، ولن أعود لهزيمة 1967 ومزايدات “برقبتي يا ريّس”.
ولقد شعرت بالخوف وأنا أتابع الندوة الصحفية لقائد حماس في غزة، والتي قال فيها بأن هناك مئات من الأنفاق لم تتأثر بالعدوان الإسرائيلي، في حين أن من يتابعون أحداث التاريخ يتذكرون أن بريطانيا عتمت على اختراع “الرادار” خلال الحرب العالمية بترويج الإشاعة التي تشجع البريطانيين على الإكثار من أكل “الجزر” لأنه يقوي البصر، واقتنع الناس، والألمان معهم، بأن الجزر هو السر في أن مراقبي الشواطئ أصبحوا من عينة زرقاء اليمامة، وهم يكتشفون الطائرات الألمانية المهاجمة وهي على بعد كبير يمكن من الاستعداد لإسقاطها.
وشعرت بالخوف أكثر عندما نسب ليحيى السنوار قوله بأنه سوف يعود إلى منزله على قدميه، وهو تعبير طبيعي لمن يريد استثارة حماس أنصاره، ولكنه موقف بعيد عن الحكمة والتبصر، ويكفي أن نتذكر من فقدناهم منذ عز الدين القسام ثم الحسيني ومرورا بثلاثي بيروت ثم أبو جهاد وأبو إياد وأبو علي ووصولا إلى الشيخ أحمد ياسين ثم ياسر عرفات نفسه ومئات آخرين.
وبمنتهى الأخوة وبكل تواضع أقول للقادة الأشقاء: ما هكذا تؤكل الكتف، ولا أعتقد أن أهل فلسطين، وأهل غزة على وجه الخصوص، في حاجة إلى استثارة أو تحميس.
وأنا أتصور أن ما قاله السنوار يمكن أن يكون موجها لمن يحاولون عزل حماس في القطاع، أو التسرب داخل الصفوف عبر الادعاءات بالمساهمة في الإعمار، وليس سرا أن محاولات الاختراق ستكون أكثر نشاطا في المرحلة القادمة، وقد يكون “بعض” الأشقاء أكثر اهتماما بمعرفة خبايا الواقع الميداني، ومن هنا فليس من الضعف أن نلتزم بالمقولة الخالدة: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان.
وليس عيبا أن نتظاهر بالضعف أمام العالم أجمع، لأن المهم هو أن تشعر شعوبنا بالقوة التي تتجسدُ ميدانيا وهي ترى قادتها يتقدمون الصفوف، والأكثر أهمية هو أن ندرك أن الغموض هو أكبر سلاح ضد العدو الذي يملك ما لا نملكه، إلا الإيمان بنصر الله.
من هنا فإن الهدف التكتيكي لا يجب أن يفسد الهدف الإستراتيجي.
ولن أطيل، فأنا من أوائل من يعرفون بأن أهل مكة أدرى بشعابها، لكنني أؤمن بأن بذور الهزائم قد تكمن في الانتصارات، والفوز في معركة مهما كانت عظمته لا يجب أن يكون سببا في فقدان الحرب، فالطريق ما يزال طويلا، والحرب هي خدعة، وما ارتآه سعد الدين الشاذلي ورفاقه في 1973 كان عين العقل ولب الحكمة.
رحم الله الشهداء ولا قرت أعين من تعرفون.
محي الدين عميمور قامة عقلانية جزاءرية محترمة تمنيت ان يكون صوته مسموعا في الجزائر، و في فلسطين و من قبل كل العرب و المسلمين…لكن
شكرا صديقتي حذامي على قيامك باطلاعي على هذا النص المهم و غيره تحياتي