كفانا تكفيرا ؟

بقلم – حذامي محجوب

رئيس التحرير

يقال عادة إن إمبراطوريات المستقبل هي إمبراطوريات العقل.

فالعقل الذي يسمو إلى معرفة الحقائق الأبدية لا يفنى حيث يتداعى الجسد.

كما إن “التنوير هو رفع الوصاية العقلية على الفرد وإخراج العقل من قصوره الخاص”، هذا هو التعريف الذي قدمه “ايمانويل كانط” في القرن 18 والذي يبدو انه ما يزال راهنا في مجتمعاتنا رغم انه قد وقع تجاوزه نوعا ما في الثقافة الغربية.

لقد كان شعار الأنوار”اجرؤ على استعمال عقلك”، هذا الشعار يشخص بالضبط الأزمة الحالية للعقل التي عاشتها ومازالت تعيشها مجتمعاتنا العربية -الإسلامية والناتجة عن غياب الجرأة على استعمال العقل، وتسليم الناس عقولها إلى وصاية رجال الدين والسياسيين الذين لا يختلفون عن المشعوذين والدجالين الا من ناحية الشكل.

التنوير ليس شأنا غربيا وان وافق مرحلة تاريخية معينة، عاشها الغرب وبالغوا في استثمارها لصالحهم، ولكن العديد من الشعوب أعادت امتلاك هذه المرحلة اليوم، باعتبار ان التنوير بكل بساطة يقوم في جوهره على استعمال العقل والاستنارة به في الحياة، أي استعمال العقل في كل المسائل التي تعترضنا دون أي تمييز بينها، بل لعل استعمال العقل في المسائل المتعلقة بالمقدس والمحرم والممنوع كالمسائل المتعلقة بالدين وبالعقيدة والثقافة الموروثة، هو الطريق الوحيد لتحرير العقل، وهذا لا يعني أن الإنسان سيتنكر لموروثه الثقافي أو لديانته بل يعني بالأساس أن يصل الإنسان بنفسه إلى الإجابة عن الأسئلة التي تطرحها هذه المنظومات بعد تفكير عقلي ونظر، وأن لا يقبل إلا الأجوبة التي يفرضها المنطق والحس السليم.

إن أكبر مصيبة يمكن ان تصيب المجتمع هي القصور العقلي، حين يخضع أفراده للسائد ويعرضون عن كل تجديد، فيصبحون لقمة سائغة لمن يدعي الفكر والسياسة والدين.

ما نلاحظه هو رغم أننا نعيش زمن الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي إلا أن معظم الناس في مجتمعاتنا لا تملك حسا نقديا قادرا على التمييز بين ما هو عقلي ومعرفي وبين ما هو انطباعي وانفعالي، بل إن معظم الأشخاص لا يملكون استقلالية ذهنية تمكنهم من مجابهة كل السلطات التي تأتي من خارج المعرفة والتي تقتل العقل، كسلطة الخوف والرقابة الذاتية التي هي أخطر من رقابة الجماعة، ناهيك انجذاب الآنوات في مجتمعاتنا نحو الكسل بسبب عدم تقديس قيمة العمل وترذيل المبادرات الفكرية الفردية.

لماذا نفكر؟ إذا كان الإمام أو المرشد هو الذي يسطر لنا الحياة باسم الدين؟ لماذا نفكر؟ إذا كان السياسي هو الذي سيختار لنا مصيرنا؟ فما بالك، إذا اقترنت السياسة بالدين، نسلم أمرنا عن طواعية للحاكمين وننقاد إليهم كالقطيع ونجعل من طاعتهم واجبا.

من أين سنبدأ؟ هل نبدأ من أحمد بن حنبل وتكفيره للمعتزلة؟

هل انتهينا فعلا كأمة يوم أفتى المنصور بحرق كتب ابن رشد سنة 1194 وطرده من قرطبة؟

إن تهمة التكفير تسافر عبر الزمان والمكان في أوطاننا، تحلق على رؤوسنا كالطير الأبابيل وتطارد كل عقل حر، عباس ابن فرناس الذي ذاع صيته بسبب اختراعاته التي سبقت عصره، ثار عليه جهلاء العامة وبعض الفقهاء واتهم بالكفر والزندقة وإتيان الخوارق الشيطانية.

ابن سينا والمعري وقع تكفيرهما وقال ابن القيم الجوزية عن الاول” انه امام الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر” وعن الثاني ب” انه ملحد وكافر بكل الأنبياء” جابر بن حيان، اتهمه ابن تيمية بالزندقة والكفر والإلحاد وحرم علم الكيمياء واعتبره سحرا. كما كفر ابن القيم الفارابي وقال انه قد” اتبع طريق ارسطو في الكفر بالله “. الخوارزمي، رغم انه حل مشاكل الإرث في الإسلام بالحساب، إلا أن رد شيخ الإسلام عليه آنذاك كان عنيفا “إن العلوم الشرعية مستغنية عليك وعلى غيرك”.

الجاحظ، الكندي، ثابت بن قرة، الرازي، مسكويه، ابن الهيثم، ابن النديم، ابن باجة، الادريسي، ابن طفيل، ابن جبر، الطوسي، ابن بطوطة. . . كل هؤلاء العلماء والفلاسفة وغيرهم، وقع تكفيرهم والتنكيل بهم بنسب متفاوتة.

تاريخنا حافل بالتكفير ولنا رواد في مسألة التكفير بدءا بأحمد ابن حنبل ومرورا بابن تيمية وابن القيم الجوزية إلى سيد قطب وحسن البنا وحسن الترابي…

لما تجرأ طه حسين في بداية القرن الماضي على توخي منهج الشك في دراسة الشعر”الجاهلي” وبين بالحجة والبرهان أن هذا الشعر يرجع إلى العصر العباسي استنادا إلى لغته وأسلوبه وخلوه من أي مضامين وثنية، شن عليه رجال الدين في الأزهر حملة شعواء، وتم حتى استدعاؤه من قبل الشرطة للتحقيق معه في الأمر إلى ان تراجع عن هذا المشروع التنويري الضخم تحت طائلة الخوف والتهديد.

تواصل هذا الترهيب وتعددت مظاهر العنف الفكري والمادي مع كبار مفكري العالم العربي الإسلامي بطرق مختلفة، تعرض صادق جلال العظم حين نشر كتابه ” نقد العقل الديني” إلى التكفير والملاحقة والمطالبة بهدر دمه، كما تعرض إلى السجن اثر صدور كتابه “النقد الذاتي بعد الهزيمة” ومات في المنفى سنة 2016. وقع إعدام المفكر السوداني محمد محمود طه بفتوى من حسن الترابي.

قامت زوبعة في تسعينات القرن الماضي تزامنا مع نشأة الإسلام السياسي وانتشار الجماعات الإسلامية وطالت العديد من الكتاب الذين اعملوا عقولهم وعارضوا سلطة النص المطلقة والقراءات الحرفية للنص الديني.

وقعت إهانة محمد أركون في الجزائر بطرده سنة 1986 من طرف تلاميذ الشيخ الغزالي من مؤتمر الفكر الإسلامي، أما فرج فوده الذي عرف بعدائه الشديد للإسلام السياسي والتيارات المتطرفة والذي كان يدعو دائما إلى ضرورة الفصل بين ما هو مدني وبين ما هو مقدس، فقد قتل بمباركة الشيخ نفسه سنة 1990 بعد أن رد على كتاب ” الفريضة الغائبة” لمحمد عبد السلام فرج، هذا الكتاب الذي يمثل ” دستور” الجماعات المتطرفة والتكفيرية بكتاب” الحقيقة الغائبة” الذي يعرّي فيه هذه الجماعات رافضا الخلافة كنظام حكم. كذلك المفكر اللبناني مهدي عامل الذي وقع تكفيره وقتله أمام زوجته على أساس فتوى دينية في بيروت سنة 1987.

كما طالت محاكم التفتيش نصر حامد أبو زيد الذي وقع تكفيره وإصدار حكم بتفرقته عن زوجته بناء على دعوى اعتبرته مرتدا، فاضطر للجوء إلى هولندا اثر هذا الحكم الجائر. لا ننسى كذلك الجدل والتكفير الذي نال الناشطة النسوية نوال السعداوي في حياتها والشماتة والمطالبة بعدم الترحم الذي طالها بعد مماتها.

العديد من المفكرين في العالم العربي الإسلامي يضطرون لمغادرة أوطانهم ويطلبون اللجوء ويعيشون في المهجر لمجرد أنهم يطلقون العنان لعقولهم ويفكرون بحرية خارج الخطوط الحمراء.

كل هؤلاء المفكرين ارتكبوا خطيئة في نظر نظمهم وشعوبهم لأنهم تجرؤوا على “إعمال العقل” وتجرؤوا كذلك على دعوة الناس لكي”يعملوا عقولهم”.

إن العقل في بلداننا متكلس إلى درجة أن من يعمله يقع تكفيره، يبدو أننا لم نخرج لقرون من مقولة “من تمنطق فقد تزندق”.

لقد بات يستحيل اليوم تجاهل ما هو منتشر في العديد من المجتمعات العربية، من طوفان فيه ميل واضح وصريح لدى قطاعات عريضة من الافراد العاديين بل حتى “المتعلمين” منهم إلى إصدار أحكام دينية على بعضهم البعض، ويمكن القول ان هذا الميل نابع من انصياع وراء فتاوى انتشرت واشتهرت وعادت بقوة بفضل الشبكة العنكبوتية اليوم، واغلبها يندرج تحت راية الإسلام السياسي الذي يعمل على تقسيم المجتمع بواسطة التشدد والمغالاة والتطرف وكراهية الآخر، بل تجاه كل من يفكر او يتكلم او يبدو مختلفا عن الصورة التي تم فرضها لما ينبغي ان يكون عليه المسلم المتدين.

هذا الفكر التكفيري وجد كل أنواع الدعم من مال وسلاح، إضافة إلى الدعم الداخلي في المجتمعات ممثلا في الحاضنة الشعبية المرحبة التي ترفض ان تعمل عقلها. ليس التطرف الديني هو الوحيد الذي يعوق التنوير ويعطله في بلداننا، لكن كذلك الأنظمة السياسية التي لا يهمها غير بقائها في السلطة، فتلجأ إلى مغازلة الإسلام السياسي سعيا منها إلى الهيمنة على رأس المال الرمزي للشعوب والتلاعب بالمخيال الديني للمجتمع بقمع الحريات الفردية وعدم احترام حرية الضمير.

إنها أنظمة تتظاهر بمحاربة التطرف الديني بالأمن والسلاح ولكن في نفس الوقت تحافظ على مصالحها بتحالفها مع القوى الرجعية ثقافيا، فتتطبع مع التطرف الديني ولا تحارب محاضنه.

ففي يناير 2001 أمرت وزارة الثقافة المصرية بحرق نحو 6000 نسخة من أشعار لأبي نواس. وفي تونس وقع التخلي في أول فرصة سنحت بها الجائحة عن رسالة الغفران للمعري من برامج التعليم، كما لم تصادر فرع اتحاد علماء المسلمين بتونس رغم اعتراض الوعي المدني عليه، بما أن كل الانتخابات التي جرت في تونس منذ 2011 إلى 2019 قد سمحت بوصول تكفيريين إلى البرلمان. داخل هذا التحالف المغشوش يتعايش الإرهاب ويتغذى، وهو غول يرصد العقل التنويري لقتله، لهذا نبقى نحتاج أسبابا أقسى من العقل والمنطق لكي نبرر الهجرة.. أسباب أكثر انفعالا.. أكثر سطوة وحضوراً.

لكن إرادتنا هي أن نبقى نقاوم ونواصل معركتنا التنويرية من اجل هذا الوطن الذي لن نسلّم فيه…