بقلم – أ. حذامي محجوب: رئيس تحرير
إن التسامح هو الفضيلة التي تسمح لنا بوضع الحدود التي يتم من خلالها التعبير عن تعددية المجتمع العاقل الناضج.
فأعقل الناس أعذرهم للناس.
التسامح قيمة لا يصل اليها إلا من تربى على التسامي فوق ذاته، وتجاوز انانيته الضيقة وقبل وتعوّد على التعايش مع الاخر المختلف.
إنّ الذات السلبية في البشر هي التي تغضب وتأخذ بالثأر وتعاقب بينما طبيعتهم الحقيقية هي النقاء وسماحة النفس والصفاء والتسامح مع الآخرين.
لا يوجد انتقام أكمل من التسامح.
لا يمكن لمن امتلأ قلبه بالكراهية والحقد الا ان يكون رافضا للتسامح.
يتطلب الأمر عملا على الذات لتتعالى عن الكراهية والإقصاء وغيره من المشاعر السلبية الضيقة التي هي السبب الرئيس في انتشار العنف ومظاهر التطرف، التي أدت الى الدمار والخراب والإرهاب، الذي لم تسلم دولة في العالم من شروره، والذي سقطت بسببه أرواح بريئة.
التسامح هو قبل كل شيء مفهوم أخلاقي اجتماعي، لذلك انتصرت ودعت إليه كلّ الأديان السماوية، ونادت به جميع الثقافات، لما له من أهمية في تحقيق وحدة وتماسك المجتمعات، والقضاء على الخلافات الحادة بين الأفراد والمجموعات، انه يقوم على اعتبار كل الثقافات دون تمييز تفاضلي بينها وعلى احترام كل الاديان والعقائد والافكار، فلا عدالة انسانية دون احترام الحقوق والحريات الانسانية العامة.
خصصت الأمم المتحدة سنة 1996 يوم السادس عشر من نوفمبر من كل عام يوما عالميا للتسامح، تحتفل فيه الأمم والشعوب والمجتمعات بترسيخ قيم وثقافات الاحترام المتبادل والتآخي، ونبذ كل مظاهر التعصب والكراهية والتمييز.
ومنذ 1996 اصبحت هذه الذكرى السنوية مناسبة للتذكير بضرورة احترام الآخر، وعدم اجباره على قبول ما لا يريد، وفهم المخاطر التي يشكلها التعصب ومحاولات الإقصاء.
معظم الابحاث الاجتماعية والنفسية تشير الى ان العنف والارهاب ليسا الاّ نتيجة لتراكمات تاريخية وفترات، غابت فيها عن المجتمع قيم التسامح، وغاب عنها معنى التعايش المشترك ومفهوم العفو، وحل محلها التعصب باشكاله المختلفة..
هذه الممارسات التي انتهجتها بعض الدول القوية التي تتحكم في الاقتصاد العالمي اقتصاديا وسياسيا، ومحاولاتهم لفرض نمط ثقافي وحياتي معين على بقية دول العالم وشعوبها كانت سببا في ظهور التطرف باشكاله المختلفة، كما ان القراءات المغلوطة المنحرفة والتفسيرات المتشددة لمبادئ الأديان، قد ساهمت في تغذية هذا التطرف، حيث لم يرتبط التطرف بدين بعينه أو بثقافة محددة، بل إن جميع الاديان قد شاركت في نشوئه وانتشاره،وقد دفعت كل المجتمعات تقريبا ثمن تنامي العنف والارهاب حتى تلك التي كانت تعتقد انها محصنة.
ولأن تونس جزء من العالم الذي نعيش فيه، فقد ابتليت بما حدث فيها من ارهاب، اذ شهدت خلال السنوات الاخيرة العديد من أعمال العنف، ( من قتل الجنود الى تفجير حافلة امن رئاسي، الى حرق الزوايا ودور العبادة والحقول والغابات الى قتل السياح في متحف باردو، بل بلغ الامر الى اغتيالات سياسية وسطو على مراكز الامن والشرطة وتبادل العنف في كل مكان ….).
كان العنف في اوجه بعد احداث 2011 وكان موجها لكل من اشتغل في منظومة الحكم السابقة ووقع شيطنتهم ونعتهم بالازلام، ثم قام العنف على التكفير الى ان وصل الى التخوين، ووقع تفكيك الدولة على هذه المراحل الثلاثة ولكن ما هو اخطر هو تفكيك وتقسيم المجتمع الى درجة ان الإرهاب قد شمل كل ظواهر المجتمع،ولئن حصل وعي لدى التونسيين بخطورة المسار الذين انخرطوا فيه على اثر احداث 2011 لما رافقه من عنف وارهاب، فانهم اليوم ينخرطون في مسار آخر لا يقل خطورة عن الاول نظرا لتغير المعطيات الجيو – سياسية والاوضاع الاقتصادية العالمية وانهيار المنظومة الاقتصادية المحلية وانهاك المواطن بمعارك ايديولوجية يعود بعضها الى اواسط القرن الماضي،كما ان القضاء الحقيقي على الارهاب لايمكن ان يكون فقط بمقاربة امنية على اهميتها، بل لا بد ان تكون المقاربة شاملة وتركز على الجوانب التربوية والثقافية والفكرية، لا يمكن للمجتمع ان يتقدم اذا لم يتخلص من احقاده ويقارع المختلف بالفكر المستنير لا بالسب والشتم والتخوين.
لابد ان تركز السياسات في تونس على تشجيع قيم التسامح، ونشر روح الاخاء عبر العديد من الجهات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني، إضافة إلى تعزيز ثقافة حقوق الإنسان وإشاعتها بين كافة فئات المجتمع، والترويج لقيم الإسلام السمحة والمعتدلة التي تحفظ للبشر جميعا حرية اعتناق ما يؤمنون به من أفكار، فالإسلام جعل الرحمة في قلب مشروعه الحضاري ودعا إلى التسامح في كثير من الآيات القرآنية والاحاديث، لقد نهى ديننا الحنيف عن كل اشكال التطرف والعنف.
ولا يمكن للمجتمع ان يتعافى ما لم تعمل الدولة على جعل هذا الفكر ثقافة يومية ينتهجها المجتمع التونسي بكل أطيافه وان تقوم بذلك قولا وممارسة وان تترجم كل الجهود في شكل اجراءات تشريعية وقانونية تناى بالمجتمع عن الانقسام والتمزق وتعيد شذرة الوحدة الوطنية دون ذلك لا يمكن ضمان الأمن والاستقرار والعزة والكرامة.
لا بد للدولة ان تسعى الى تعزيز قيم التعايش والتسامح واحترام الآخر، فاختلاف الناس في اجناسهم وعقائدهم وطرق تفكيرهم ومقارباتهم وانتماءاتهم الثقافية لا ينبغي أن يكون سببا في تخوينهم ومعاقبتهم، بل إن الاختلاف هو نعمة وقيمة سامية باعتباره عنصر ثراء، والإقرار بذلك يمثل أبرز وأول حقوق الإنسان التي يجب صيانتها والحفاظ عليها.
ان التعايش وقبول الآخر، وعدم محاولة إقصائه واجباره على ما لا يقبله، هو شرط تعافي المجتمعات وامتصاص العنف فيها طبقا لما يقتضيه القانون لا غير.
ان تعزيز نهج التسامح لابد ان يكون أحد الثوابت الاساسية للدولة، التي عليها ان تتجه نحو مزيد الانفتاح الإيجابي على الآخر، وتعزيز مبادئ حقوق الإنسان، ودعم مناخ التسامح والتعايش..
هذا هو الطريق الوحيد الذي يمكن ان يقود بلادنا بخطى ثابتة الى التنمية والنهضة وان شئتم العلو الشاهق.
انّ عظمة الرجال تقاس بمدى استعدادهم للعفو والتسامح عن الذين أساؤوا إليهم، فالتسامح وحده يعني أنّك تمنح لنفسك الفرصة لكي تبدأ بداية جديدة..