بقلم – حذامي محجوب
رئيس التحرير
لم تشعر بالوحدة حتى عندما لا تكون وحيدا ؟
غالبية الأشخاص الذين يشعرون بالعزلة ليسوا معزولين اجتماعيا : إنهم يعيشون عادة كزوجين، ويشتغلون، ولديهم أطفال وأقارب وشبكة واسعة من الأصدقاء… فما الذي يفسر هذا الشعور لديهم بالفراغ الداخلي؟
شعور بموجة من الحزن الغامض بدون سبب واقعي مباشر.
غالبا ما يستبدّ هذا الشعور بالفراغ بالقلب ويتملك الرهيف، وفي نفس الوقت تشاهد الناس حولك، يتكلمون ويضحكون ويبدون لك أنهم يستمتعون بالحياة، لكن يتعسر عليك مشاركة فرحتهم : لان مراكز اهتماماتهم تبدو لك بعيدة كل البعد عن مواضيع اهتماماتك، فتشعر بأن لا احد يفهمك، كما لو كان بينك وبينهم جدار زجاجي عازل يفصلك عنهم.
انت تشبههم ولكنك في نفس الوقت مختلف جدا عنهم، قريب جدا منهم وفي نفس الوقت بعيد كثيرا عنهم. انها المفارقة التي تتجلى في ذلك الشعور بالوحدة.
هذا الشعور يصل إلى أقصاه عندما تكون بصحبة الآخرين، يتعمق، في اللحظة التي تشعر فيها بالمسافة التي تفصلك عنهم.
شعور يتملكك في وسط الجماعة. إنه شعور يثقل كاهل الأزواج الذين لا يجدون ما يقولونه لبعضهم البعض، أو الذين تباعدت مسارات حياتهم كثيرًا وأخذت منعرجات مختلفة.
إنه شعور يجعلك تخاف من اللّقاءات العائلية عندما يُنظر إليك على أنك المهمش، أو الخروف الأسود، أو عندما تفشل في الالتزام بعادات وتقاليد المجموعة التي تنتمي اليها. لان العلاقات والروابط الاجتماعية لا تلهمك ولا تثير فيك رغبة الانخراط والاهتمام بها، إلا إذا كان لها معنى ما عدى ذلك فانها تخلّف نتيجة عكسية لأنها تقيدك دون أن تملأ هذا الفراغ الداخلي فيك.
يعيش البعض بحكم الضرورة معزولين عن العالم ولا يعانون من هذه العزلة، فقد أظهرت دراسة أجراها مركز الأبحاث لدراسة ظروف المعيشة ومراقبتها (Credoc)سنة 2016، أنه لا توجد علاقة مباشرة بين العزلة الحقيقية والشعور الشخصي بالوحدة.
أكثر من نصف الأشخاص الذين يشعرون بالوحدة لا يعيشون وحدهم.
تشير كل اعمال “بيجون كاسيوبو” بين سنة (1951-2018)، -وهو رائد في أبحاث علم الأعصاب الاجتماعي -الى ثلاث سمات شخصية محددة لذلك الذي يغمره الشعور الذاتي بالوحدة بشكل خاص: الحاجة الشديدة للاعتراف والدعم، والخوف الشديد من أن يكون خارج القاعدة او النظام، وأخيراً، صعوبة في التمسك بالأفكار والمشاعر.
في أوقات الانكماش أو عندما يتم تهميشه حقًا. بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما يرسل عن غير قصد إشارات يمكن أن تدفع الآخرين بعيدًا – فهو يبتسم أقل، ويميل إلى أن يكون عدوانيا، وقابل للتأثر، عندما يتعين عليه بدلاً من ذلك التعامل مع البيئة.
إن المرض المزمن المنهك، الذي يفصلنا عن الأصحاء ويمنعنا من الاستمتاع بنعم الحياة، يعمق لدينا هذا الشعور المؤلم، الذي يطفح على السطح في حالات الموت والانكسارات، اي ان التجارب واختبارات الحياة تزيد من حدة هذا الشعور، بالإضافة إلى فترات معينة من الحياة : كالمراهقة على وجه الخصوص، عندما يعرف الجسم تحولات كبرى ؛ كذلك مع بداية سن الرشد، عندما يتردد المرء في الاختيار بين الاندماج والذوبان مع الآخرين والحاجة إلى التفرد والتميز، وبالطبع أثناء الكبر، حيث ينشأ الشعور الممل بأن الحياة اليومية تبدو أقل جاذبية من العقود الماضية . تؤثر صورتك للوحدة أيضًا على كيفية تجربتك واحساسك بها.
وكلما زاد الضغط، زاد شعورك بالخوف من استمرار هذه الحالة وهذا الاحساس. وحين يكون المجتمع في حد ذاته مريضا ومضطربا فهو لايساعد على تخطي هذا الالم واسكاته.
كما يظهر التصوير الطبي أن هذا الالم بالإضافة إلى جوانبه النفسية، فإنه ينشط مناطق من الدماغ (القشرة الحزامية الأمامية)، وهي تعمل أيضًا في إدراك المعاناة الجسدية.
ليس من قبيل الصدفة أن يتم وضع السجناء الذين يمثلون خطورة في السجن الانفرادي. فالاستبعاد عقوبة. ربما يكون الأسوأ، لأنك رفقة إخوانك من البشر، والتي هي المرهقة في بعض الأحيان، تكاد تكون ضرورية لك مثل الهواء الذي تتنفسه.
مع ذلك، بالنسبة ل ” جاك ناتانسون “، فإن الشعور بالوحدة ليس شذوذًا عصبيًا، انه محايث لوضعية الانسان : انه متأصل فيها، يقول : “إذا شعرت بالوحدة وسط مجموعة من الناس، فذلك لأنك تتمثل المجموعة كوحدة مندمجة وتشعر بانك لست جزءًا منها. يعيش كل كائن حي تجربته بطريقة منفصلة وفريدة من نوعها.
ان الحب وحده هو الذي يجعلنا ننسى تمامًا هذه الفردية، هذا الاغتراب الذي لا يمكن علاجه بينك وبين الآخر- والذي طالما استمر. لأنه بعد فترة من التواصل، ومن الشراكة الكاملة، عندما يتغير المسار، يعود الشعور بالوحدة أكثر عمقا من المرة الاولى.
في الواقع، لا يكاد يوجد أي شخص غير المتدينين الذين يتغذون من الحب الإلهي، يمكنه التظاهر بالهروب من هذا الشعور – لكن هذه الحالة ليست متواصلة لديهم، لأنهم يواجهون حتمًا لحظات من الشك.
بالنسبة لفرويد، فإن القلق والعجز الذي نشعر به جميعًا كأطفال في ظلام الليل هو مصدر الشعور بالوحدة، عندما نكبر، نكتم او نكبت هذه التجربة تدريجيًا : من خلال استبطان صورة الوالد المطمئن والراعي داخلنا، ثم من خلال تعلم التعويل على انفسنا، والاعتماد على مواردنا الخاصة.
سوف تدرك أنه بمجرد أن يتحدث شخص ما، يختفي الظلام ويعود السلام. لكن، بشكل منتظم، سوف يعود هذا الفراغ الداخلي – عندما تشعر بأنك تركت لمصيرك، عندما تتساءل عن معنى وجودك ككائن فريد من نوعه، قادم من تاريخ شخصي بالضرورة، تتمتع بمناطق نفسية لا يمكن لغيرك اختراقها ستشعر بالوحدة في بعض الأحيان.
الشعور بالوحدة هو النقيض تمامًا “للشعور المحيطي” الذي أثاره فرويد في مراسلاته مع رومان رولاند : هذا الأخير يهدئك عندما يكون لديك انطباع بأنك جسم متحد مع الكون.
ومع ذلك، إذا كان هذا الشعور يرافقك باستمرار، هل يمكنك البقاء على قيد الحياة؟
ومع ذلك فان الشعور بالوحدة له فائدته، فحياة الوحدة مصير كل الأرواح العظيمة. رغم انّ الوحدة مؤلمة، لكنها أجمل بكثير من الذين يذكرونك فقط وقت فراغهم.
انها غرفة خلفية لإعادة التواصل مع نفسك.
بعض الناس يتمسك بوحدته بقدر ما يتمسك بحياته، حتى لو كان ذلك يعني تعريض نفسه للحرمان. هذا هو حال الخجولين، أولئك الذين لديهم القليل من الرهبة من الحياة الاجتماعية. بالنسبة ل ” آرثر شوبنهاور ” (1788-1860)، الذي يقول بأن الحب مجرد وهم، “يمكنك فقط أن تكون على طبيعتك طالما أنك وحيد. من لا يحب الوحدة لا يحب الحرية. الجميع سوف يفر أو يتحمل أو يعتز بالوحدة بما يتناسب تمامًا مع قيمة نفسه “.
يدعونا الكاتب ” موريس بلانشو ” للحوار مع شعورنا بالوحدة من خلال الانخراط في ممارسة كتابة اليوميات الحميمة لأنه، هناك، “عندما تكون وحدك، فانت لست وحدك، بل تعود إليك في شكل شخص ما،حيث تكون وحدك “.
الكتابة تربطك بحياتك الداخلية، بالأجزاء المخفية من ذاتك. تتوافق هذه النتيجة مع فكرة المحلل النفسي ” جاك لاكان “، الذي افترض أن أفضل علاج لمشاعر الوحدة هو العلاقة الجيدة مع اللاوعي.
ولكن إذا كان هناك حكمة يمكن تعلمها، فهي بلا شك درس ” مونتين ” (1533-1592). مخترع الاستبطان الفلسفي، الذي استكشف حالاته الذهنية لفهم تعقيد النفس البشرية بشكل أفضل. لقد عاش تجربة المرض – فالحصى في الكلى تسبب ألما شديدا. كما فقد أعز أصدقائه. بعبارة أخرى، أجبر على التعامل مع الوحدة الداخلية لتحويلها إلى حليف. وينصح قراءه قائلا “يجب أن تحتفظ بغرفة خلفية خاصة جدًا تؤسس فيها حريتك الحقيقية “. هذه الغرفة الخلفية ليست زنزانة منعزلة. إنها ملجأ حيث يتحاور وعيك مع نفسه ويتعلم الاستغناء عن الحاجة إلى التلهية والمهن. إنه بيت يمكن أن تعيش فيه بتناغم جيد مع نفسك دون الانغماس في التقوقع النرجسي.
الأمر متروك لك لتزيينه بالشكل الذي تراه مناسبًا.
فانت المالك الحقيقي له والمسؤول الوحيد عنه.
الم تعلم انّ الأشياء الثمينة والعظيمة دائماً تكون لوحدها !.
Perfectly analysis Prof.Hadzmy
قد يرعب التفرد من هم حولنا فالأراء النيرة في مجتمع يعيش ازدواجية الانتماء إلى العادات والمعاصرة في الوقت ذاته تدفعنا باتجاه الوحدة وكما أشرت في المقال من لايحب الحرية لايحب الوحدة.