بقلم – حذام محجوب
المرأة هي نصف المجتمع، والنصف الثاني يخرج من رحمها، رغم ذلك يقال عادة، إن المرأة هي عمل غير كامل، ترك الله أمر إتمامه للرجل !
الكل يعلم انه في تونس نزع القانون من الزوج حق طلاق الزوجة بمجرّد كلمة أو نزوة منذ صدور مجلة الأحوال الشخصية إبان الاستقلال في 1957.بالتالي لا يكون ابغض الحلال عند الله في تونس إلا من خلال حكم قضائي، تصدره هيئة قضائية مدنية.
تمّ إلغاء كذلك المحاكم الشرعية بما نتج عنه توحيد النظام القضائي التونسي ونهوض المجتمع.لكن ما لا يعلمه الكثيرون ربما عن حسن نية أو عن سوء نية ان منع تعدد الزوجات في تونس خلافا للإجراء المماثل الذي سبق أن اتخذه كمال أتاتورك في تركيا، بالقطع الكامل مع الإرث التشريعي الإسلامي، واعتماد القانون السويسري، فان الزعيم الحبيب بورقيبة فضل أن يكون مشروعه الإصلاحي في سياق اجتهاد وقراءة تنويرية عصرية للإسلام.
لهذا لم تولد مجلة الأحوال الشخصية من فراغ بل هي ثمرة وتتويج مسار إصلاحي وفي لهويَة البلاد التونسية ولإرثها الحضاري العريق.يستحضر مجد ”أروى القيروانية”، هذه المرأة التي ألزمت خليفة المسلمين ابا جعفر المنصور بأول عقد يمنع تعدد الزوجات في تاريخ الإسلام، ليخلد التاريخ ما يعرف اليوم بـ”عقد صداق الزواج القيرواني”.
لقد لجأ أبو جعفر المنصور إلى القيروان بعد أن لاحقه جنود بني أمية، لأنه اقتفى خطى أخويه الكبيرين إبراهيم، المعروف بالإمام، وابي العباس الذي اشتهر فيما بعد باسم ”السفاح”، فجرى مجراهما في دعوى استحقاق الخلافة، ثارت ثائرة بني أمية عليه وأصبحت حياته مهددة، لذلك قصد في أوائل العقد الثالث من القرن الثاني للهجرة مدينة القيروان، نزل عند منصور بن يزيد الحميري أحد كبار التجار بالمدينة.
كانت لهذا التاجر ابنة فائقة الجمال والذكاء اسمها أروى، كانت متعلمة ومتشبعة بقراءة الكتب الفقهية والعلمية والفلسفية والترجمات التي ازدانت بها مكتبات مدينة القيروان حيث بيت الحكمة.
انبهر ابو جعفر المنصور، بجمالها وذكائها، طلب يدها من أبيها قصد الزواج، لكن أروى وضعت شرطا للموافقة وللقبول به زوجا، كان لهذا الشرط أثره البعيد للغاية، كان شرطها، ألا يتزوج عليها أبو جعفر المنصور وألا يملك عليها جواري، وإلا فيمكنها في مثل هذه الحالة أن يكون طلاقها بيدها على عادة أهل القيروان، كان الجميع يعتبر مثل هذا الشرط مجحفا في ذلك الوقت، لكن شغف أبا جعفر بأروى وعشقه لها جعله يوافق دون تردد.
بعد موت أخ أبا جعفر المنصور، عبد الله ”السفاح” الذي ظفر بمناصرة أبي مسلم الخراساني للدولة العباسية وسقوط الدولة الأموية، يتولى أبو جعفر المنصور الخلافة، ويبني مدينة بغداد التي كان يطلق عليها في البداية اسم مدينة المنصور، بعد تركيزه أسس الدولة حاول أبو جعفر المنصور التملص من شرط زواجه من أروى القيروانية، لاتخاذه الجواري على عادة الخلفاء، لكنه فشل في كل مرة، يقول أبو عثمان الجاحظ في كتاب ”المحاسن والأضداد”، ان أبا جعفر المنصور ظل 10 سنوات في سلطانه يكتب إلى الفقهاء في الحجاز والشام، بذل كل جهده حتى يفتيه احدهم بالزواج من أخرى، او حتى اتخاذ الجواري، لكن أروى القيروانية كانت له بالمرصاد، إذ كانت دائما تسبق زوجها بخطوة وترسل المال إلى العلماء والى الشيوخ لمنع المنصور من الزواج بأخرى والحفاظ على عهده حتى توفاها الأجل المحتوم ليصبح بعد ذلك أبو جعفر المنصور في حل من التزامه بهذا العقد.
تلك هي ”أروى القيروانية”، المرأة التي جعلت الخليفة يبقى على العهد الذي قطعه معها ويلتزم بشرط الصداق وهو على كرسي خلافة المسلمين، ”لا امرأة لاحقة، وإلا فأمرها بيدها”، كان يمكن للخليفة المنصور ان يتخذ زوجة أخرى او حتى جارية، لكنه كان يخشى ان تطلقه فامتنع عن ذلك مادامت هي حيّة.
إن ”أروى القيروانية” بالنسبة للنساء التونسيات المثال والمدرسة التي سرت على نهجها المرأة التونسية رغم التعثرات التي عرفها المجتمع.
بقيت أروى ساكنة في الوجدان ”إيقونة وقدوة” تهفو إليها القلوب إلى حين ظهر المصلح ونصير المرأة هو الآخر الطاهر الحداد سنة 1930 م ليعلن مؤلّفه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”، كتاب أكد فيه على ضرورة مزيد النهوض بوضعية المرأة، دعا إلى الغاء تعدد الزوجات.
تزامن ذلك مع بروز مدّ إصلاحي اجتماعي شهده الثلث الأول من القرن العشرين سمته أساسا ظهور حركة نسوية قوية تزعمتها امرأة بشيرة بن مراد وهي ابنة شيخ زيتوني (نسبة لجامع الزيتونة) تصدى بقوَة للطاهر الحداد شهّر به إلى حدّ تكفيره.
مع العلم أن بعض مشايخ الزيتونة ساندوا هذه الحركة النسوية في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي ميلادي مما يدل على وجود تيار تنويري ملازم للفكر الزيتوني.لم يكن الرّاحل الحبيب بورقيبة سوى زعيما وطنيا مخلصا لتراث فكري وإصلاحي، فما ان آل اليه الحكم ونظرا للشرعية النضالية التاريخية التي كان ينعم بها. حتى سارع إلى تتويج هذا المسار الفكري والاجتماعي الضارب في عمق تاريخ البلاد، بتكليف شيخ زيتوني آخر يحظى بإجماع المؤسسة الدينية وهو محمد الفاضل بن عاشور، ليكلّفه بصياغة مشروع القانون الجديد الذي استلهم الكثير من الأحكام الشرعية الإسلامية الراجعة إلى المذهب المالكي.بمعنى إن الزعيم الحبيب بورقيبة وضع الفقه الإسلامي في موقف غير متعارض مع خدمة وتطور الحياة، وذلك بدل من أن يجعله مكبلا لتطوّر ورقي الشعوب، هذا يدل على أن منهج الاجتهاد والتحديث لا يتضارب مع روح الدين الإسلامي الذي دعا إلى المساواة والعدالة.
إن حال مجتمعاتنا العربية والإسلامية يتطلب ان يسخّر ديننا الحنيف من خلال إعمال العقل والاجتهاد لمساعدة شعوبنا في مساعيها التنموية والإصلاحية.
ان الذي يتبنى قضية المساواة بين الجنسين لا يخالف الدين، بل ان تهميش الدين هو الذي سيمكّن ويسمح بظهور أكثر التيارات الدينية تشددا ورجعية.
إن من ينادي بالمساواة بين الجنسين لا يخالف الدين بل هو يسعى إلى تحقيق العدالة والسلام والتنمية في العالم وهي مبادئ نزلت من اجلها الأديان.
لذلك لا يسعني في هذا اليوم، 8 مارس إلا أن احيي كل النساء في عيدهن وكل الرجال الذين يدافعون عن المساواة وخاصة أولئك الذين فهموا أن الدين هو الخير والرحمة والعدالة والمساواة وانه لا خير في امة تتعدى على المدرسة الأولى التي تتكون فيها شخصية الشعوب : المرأة.